الرومانسية الصوفية وإبداع القصيدة عند صلاح عبد الصبور.

(1)

لعل النقد الأدبي لم يعرف مصطلحاً تأبى على التعريف ، واختلف الباحثون في تأصيله ، واختلف الناس في معرفته وتحديده مثل مصطلح الرومانسية ، لدرجة يعده A.O.LOVEJOYمصطلحاً لا معنى له. وتتفاوت الرومانسية في دلالاتها بتعدد الأقاليم وتعدد الأدباء والمبدعين ، فهناك رومانسية إنجليزية ، وألمانية ، وفرنسية ، وأسبانية ، وهناك رومانسية : شيلي ، وكيتس ، ووردزورث ، وكولردج ، ورومانسية : مدام دي ستايل ، وفيكتور هيحو ، ورومانسية: شليجل ، وجوته .
وعلى الرغم من هذا الخلط فلا ريب أنَّ هناك أسساً عامة تحدد دلالة هذه الكلمة الغامضة التي أثارت جدلاً كبيراً حولها ، وترجع في أصل اشتقاقها إلى جذرها اللغوي في القرن الثالث عشر الميلادي ROMAN التي تعني قصص المغامرات التي كانت سائدة في العصور الوسطى ، وتتميز بكونها قصصاً خيالية ، سواء أكانت مكتوبة بالشعر أم النثر.
ولقد أسهم مجموعة من المفكرين في التمهيد للرومانسية ، فالناقد الألماني لسنج مهد لها فيما وضع من أسس نقدية متميزة « وقد أمدت آراؤه النقد الحديث بقوة جديدة . ولم يكن لسنج رومانطيقياً ولكنه مهد الطريق أمام الرمانطيقيين وخاصة في إكباره الشعر الشعبي » وقد أسهم هردر إسهاماً فاعلاً في التمهيد للحركة الرومانسية لأنه قرن التطور الإنساني بتطور روحي وفكري يلازمه « إن التطور الذي يصيب حياة الإنسان الطبيعية ، يصيب أيضاً حياته الفكرية والروحية ، ولذلك ألح كثيراً على معاني الولادة والنمو والفناء والنمو ثانية في كل شيء . وقد عاب على الشعراء أنهم لا يتغنون بلغة الإنسان الطبيعية ، وإنما يفتشون عن تعبيرات ميتة متحجرة ناسين أنَّ التعبير والتفكير في الشعر لابد من أن يتعانقا تعانق حبيبين ، ويتصلا بأوثق من اتصال الروح والجسد في فلسفة أفلاطون ، ولذلك جنح هردر إلى تفضيل الأغنية البدائية التي تنبع من الحياة ، حياة الناس البسطاء فهي تمثل الحياة بما فيها من بساطة وكمال » ويخلص هردر من هذا كله إلى أن « الشعر الأصيل هو الذي يعبر عن الشعور ، كما أنه توجه إلى الموسيقى ورأى فيها تحقيقاً لمفهوماته عن التعبير » .

وقد جاء العالم الاجتماعي فيكو الذي تحدث عن لغة الأدب بعد مرحلة الطوفان ، وأكد أنَّ الناس بعد الطوفان كانوا يتكلمون شعراً لا نثراً مؤكداً أسبقية الشعر لا النثر مستدلاً بذلك على أن الناس في تلك الحقبة « كانوا يخضعون للحس والخيال لا للعقل وكان تفكيرهم عاطفياً أسطورياً ، وعلى ذلك فقد كانوا بطبيعتهم شعراء ، لأن (الشعر) يتبنى الشعور والعاطفة ، ولابد أن تلك اللغة البدائية كانت شعراً » .

وليس بإمكاننا تتبع التطور التاريخي لنشأة الرومانسية وتطور دلالتها ، ولكن ما لا شك فيه أنَّ القرن الثامن عشر هو القرن الذي بدأت فيه الرومانسية بالتبلور والتجدد ، وعلى الرغم من إدراكنا أننا لا نستطيع تحديد الظاهرة الاجتماعية والظاهرة الأدبية بحدث أو بصدور كتاب ، فإنه يمكننا القول إنَّ من أوائل الآثار الأدبية التي اشتملت على ملامح رومانسية واضحة هي رواية « هيليو بيز الجديدة » لـ « جان جاك روسو » سنة1761 ويمكن تلخيص مضمونها : بأن شابا يدعى سان برو يقوم بتدريس فتاة تدعى «جوليا » ابنة البارون ديتانج ، وتطورت العلاقة إلى حب شديد ، رغب فيها الأستاذ الزواج من تلميذته ، فرفض والدها تزويجها منه لكونه من الطبقة المتوسطة ، وزوجها من رجل يدعى «دوفو لمار» وسرعان ما ألفت الفتاة حياتها الجديدة مع زوجها بسبب طيبته وبساطته ، داعية حبيبها القديم أن يكون لها أخ ، وتنجب أبناء ، غير أن حبها لم يخفت ، وتقرر أن تحل المشكلة بتزويج حبيبها من صديقتها ..أن حبها لم يخفت ، وتستمر المراسلات بينهما ، ولكنها تموت بالتهاب رئوي ، تاركة له العبارة الآتية « إنني لا أتركك وسوف انتظرك ، إن الفضيلة التي فـرقت بيننا على الأرض سـوف تجـمعنـا في الحياة الأبدية » .

كما قد ظهرت سنة 1774 رواية « آلام فارتر » للأديب الألماني وولفانج جوته ، التي تحكي قصة الشاب فارتر الذي يعشق فتاة تدعى شارلوت إلى حد العبادة ، غير أن هذه الفتاة مخطوبة لشخص آخر ، فهي لا تستطيع أنْ تمنحه غير مشاعر دفينة ، ويرتكبا الإثم والخطيئة ذات يوم ، ويقررا ألا يلتقيا أبداً ، فيخرج فارتر محطم الفؤاد عازماً على تنفيذ رغبتها في عدم اللقاء ويقدم على الانتحار وقد دفعت هذه الرواية عدداً من الشباب إلى الانتحار بعد قراءتها .

(2)

قامت الرومانسية على أساس الفلسفة العاطفية التي ازدهرت في أوربا في القرن الثامن عشر ، وأرجع فلاسفتها الإدراك إلى ضرب من الشعور ، ودفع هذا إلى التنكر للاتجاه العقلي الذي يمجده الكلاسيكيون ، واستبدله الرومانسيون بالعاطفة والشعور «وهم يسلمون قيادهم إلى القلب ، لأنه منبع الإلهام ، والهادي الذي لا يخطئ ، إذ هو موطن الشعور ، ومكان الضمير » ولذلك لا حظنا « الفريد دي موسيه » الرومانسي يعارض مقولة «بوالو » الكلاسيكي ، حيث كان « بوالو » يمجد العقل ، حيث يقول «أحبوا دائماً العقل ، ولتستمد منه وحده مؤلفاتكم كل ما لها من رونق وقيمة » أما «الفريد دي موسيه » فإنه يقول « أول مسألة لي هي ألا ألقي بالاً إلى العقل » يقصد العقل بمعناه الكلاسيكي ، ثم ينصح صديقاً له« اقرع باب القلب ، ففيه وحدة العبقرية ، وفيه الرحمة والعذاب ، وفيه صخرة صحراء الحياة ، حيث تنحبس أمواج الألحان يوما ما إذا مستهما عصا موسى » .

وقد أعطت الفلسفة العاطفية« الذات » أهمية خاصة ، بحيث يتم من خلالها إدراك العالم الخارجي ، وما كان يمكن إدراك العالم الخارجي دون ذات واعية مدركة ، وقد أصبح في الفلسفة العاطفية أن الذوات هي التي تخلق عالمها الخارجي الموضوعي «ومن شأن هذا النظر أنْ يجعل من الذاتي خالقا للموضوعي ، ومن «العالم الداخلي » للذات العارفة أساسا لصورة العالم الخارجي لديها ، وأن يقدم الشعور والعيان والعاطفة على العقل والخبرة والتجربة ».

ويظهر أن هناك تناغماً بين ما هو فلسفي واجتماعي وفني لدرجة تتطابق هذه الوجهات المتعددة لتقود إلى تأكيد مفهوم واحد وقضية محددة ، فالذاتي هو الذي يخلق الموضوعي ، أي أن الفن والأدب إنما هما صورة خاصة للعالم الداخلي ، وهي صورة تتغاير بحسب الذوات التي تعمد إلى إبداعها ، وما دامت الذوات متغايرة فإن الصورة ستكون بالضرورة مختلفة « وإذا كان الأمر في الأساس الاجتماعي الإعلاء من الفردية والذاتية وتقديم الفرد والمجتمع ، فإن الأمر هنا في الأساسين الفكري والجمالي تقديم العاطفة على العقل ، والقلب على الدماغ ، والشعور على المنطق ، والوجدان على الاتزان ، والموهبة على الصنعة ، والإلهام على المهارة ، والتلقائية على القانون الفني ، والعفوية على القاعدة» .

وكان للفيلسوف الألماني « كانت » «1724 1804 » أثرٌ بالغ في التفكير الرومانسي بوصفه أحد المفكرين المثاليين الذين أسهموا في إرساء التصور العاطفي ، ويرجع «كانت» المعرفة إلى أداة داخلية كائنة في الإنسان ، فهو يرى أنَّ المشاعر الإنسانية ، وليست العقول ، هي القادرة على تمكين الإنسان من المعرفة ، بل إن المشاعر هي أداة الإنسان المعرفية الحقيقية في إدراك حقيقة الشيء وجوهره ، وبهذا تكون المشاعر قادرة على تأمل المعطيات الخارجة ، وقادرة على إعادة خلقها ، ومن ثم يكون العالم الذي تخلقه مشاعرنا هو «العالم الحق ، عالم الحقائق والجواهر ، عالم الحرية » .

وفي ضوء هذا يخرج الأدب من كونه محاكاة ووصفاً للعالم الخارجي إلى تعبير عن العالم الداخلي « فالفن إدراك شعوري وتملك عاطفي للحقيقة ، والإبداع لا منطقي لا عقلاني . وللفن قواعد وقوانين ، لكنها صادرة عن ذلك العالم الشعوري ، وله غاية هي الإمتاع ، وقد تكون له « فائدة » لكنها غير مقصودة » .

(3)

كان الجمال عند الكلاسيكيين ثابتاً ، لأنه لا يعدو أنْ يكون سوى انعكاس الحقيقة ، ومن ثم فهو ثابت في كل العصور ، شأنه في ذلك شأن الذوق الذي يتماثل لدى الناس جميعاً ، أما عند الرومانسيين فأصبح الجمال يرجع إلى الذوق ، والذوق بطبيعته فردي «فبعد أن كان الجمال موضوعياً أصبح ذاتياً ، وبعد أن كان مطلقاً أصبح نسبياً ، وبعد أن كان تطبيقاً لقواعد تجريدية صار مرده إلى تقاليد تجريبية أساسها الحاسة النفسية الجمالية التي هي منبع ما فينا من مشاعر وعواطف » .

وكان الكشف عن الحقيقة قد دفع الكلاسيكيين بعامة إلى الوظيفة التعليمية ، بحيث يكون الشعر ملقناً الناس القيم والفضائل ، والشاعر المبدع هو الذي يلتزم بمقولة هوراس التي يجمع فيها بين الفائدة والمتعة ، وحين يحدث صراع بين الحق والباطل ، لابد للحق أن ينتصر ، وحين يحصل صراع بين الواجب والحب ينتصر الواجب ، لأن العقل ينبغي أن يحكم العواطف ، أما الرومانسيون فقد تمردوا على الوظيفة الأخلاقية والتعليمية ، وأرجعوا الأدب إلى الذاتية والعاطفية ، وقد قادهم هذا إلى عدم الاكتراث « بما استقر في المجتمع من عقائد وأفكار لامبرر لها دينياً أو سياسياً . وكان كل شيء في موضع تساؤل ، وبذلك ساعـدوا في شبـوب عـواطفهم وعـالم أحلامـهم على نشـر العدل الاجتماعي ... » .

وهذا يعني أن الأدب الرومانسي يتميز بتمرده وثورته على القيم والتقاليد الاجتماعية، وهو في ثورته إنما يناصر مصالح الفرد والطبقة البرجوازية بخاصة ، ولذا فانه «كان ذا طابع إنساني شعبي في اختيار أشخاصه وموضوعاته ، ثم التحدث عن المشاعر والعواطف الفردية ، والتعبير عن الآمال العامة للطبقة الوسطى ».

وكان الرومانسيون من الطبقة الوسطى البرجوازية ، ولذلك فضلوا أن يعبروا عن طموحات هذه الطبقة وأحلامها وأمانيها ، وأن يعبروا عن مشكلاتها أيضا ، ومن مظاهر هذا التلاحم بين الفرد وطبقته وتلاحمه مع الفلسفة العاطفية أن قاد إلى أن تكون موضوعات الأدب مسرحاً وقصصاً وشعراً غنائياً ذات طبيعة شعبية ، واصبحت شخصياتها من الطبقات العامة ، وإذا استخدموا شخصيات أرستقراطية نبيلة فإنَّ هذا يكون للسخرية منها.

وقد نهض بسبب هذا الشعر الغنائي نهضة كبيرة لعنايته البالغة بالفرد وبمشاعره ، وقد تولدت أنواع أدبية جديدة ، كالرواية والقصة القصيرة ، ثم إن الرومانسيين خلطوا بين التراجيديا والكوميديا فيما يطلق عليه الدراما الرومانسية ، وقد تخلصوا في أعمالهم المسرحية من القيود الصارمة التي أرستها الكلاسيكية كوحدتى الزمان والمكان.

وقد عنى الرومانسيون بموضوعات ذات قيمة بالغة في نظرية الأدب منها الوحدة العضوية ، والصورة ، إذ أصبحت القصيدة الغنائية ذات وحدة متماسكة تشبه الوحدة العضوية للمسرحية « وتبعا لذلك تكون القصيدة الغنائية عضوية ، أي ذات بنية حية ، تنمو بها من داخلها في اتساق تام نحو نهايتها » .

إن الوحدة العضوية ترجع في حقيقتها إلى وحدة الانفعال والشعور ، وتتكئ على الخيال ، وهو يعتد بوجود الشبه والتماثل بين الأشياء والظواهر ، ومن ثم يقود هذا إلى تطابق بين الوحدتين ، كما قد تركت وحدة الانفعال آثارها على الصورة التي أصبحت « تصويرية ، لا عقلية فكرية ، ومنذ الرومانتيكيون تقرر أن كمال الشعر في لغته التصويرية لا التقريرية العقلية » .

(4)

كان العقل عند الكلاسيكيين أهم ملكات الإنسان « وكانوا يحاصرون الخيال ويخشون «شطحاته » وعلوه ، ويعدونه ملكة «فوضوية » . أما الرومانسيون فقد جعلوا الخيال الملكة الأولى ، لدى الإنسان ، الملكة الخالصة ، القادرة على الوصول إلى الحقيقة»

إن الخيال يمثل مفهوماً أساسياً في نظرية الأدب الرومانسية ، وله خصوصيته التي تميز بها ، لأن الشعر بدونه لا يكون شعراً ، والإيمان بالخيال جزء من إيمان العصر الرومانسي بالذات الفردية ، وكان الشعراء الرومانسيون « يعتقدون أن كبح جماح الخيال إنما يعني إنكار أمر حيوي ضروري لكيانهم جميعه . وهم يرون أنَّ الخيال وحده هو الذي يجعل منهم شعراء ، وأنهم يستطيعون بممارستهم إياه ، أن يقوموا بخير مما قام به الشعراء الذين ضحوا به في سبيل الدقة والذوق العام » .

ويتجاوز مفهوم الخيال عند الرومانسيين القدرة على التأليف بين المتشابه والمتماثل ، وإعادة تركيب الصور إلى قضية خلق عوالم جديدة وتقترب من خصائص خارقة ، فعالم الخيال عند وليم بليك « هو عالم الأبدية ، إنه الصدر الإلهي الذي سيضمنا إليه بعد الخلاص من جسدنا الطيني ، عالم الخيال هذا لانهائي وأبدي ، على حين عالم التكاثر أو العالم الطيني متناه وموقوت ، توجد في عالم الخيال الحقائق الدائمة لكل ما نراه منعكسة على تلك المرآة الطينية في الطبيعة »، والخيال عنده « فعل إلهي هذا معناه أن الخيال هو الذي يحقق الطبيعة الروحية للإنسان تحققا نهائيا وكاملا » .

وفي ضوء هذا فإن الخيال لا يبتعد عن الحقيقة « لأنَّ الحقيقة ليست المظاهر الحسية للعالم الخارجي ، أو توصيفاً للملامح الأخلاقية والقيم الاجتماعية الثابتة ، كما هو الحال عند الكلاسيكيين لأن الخيال عند الرومانسيين في أثناء معالجته ما لا وجود له » إنما يكشف نوعاً من الحقيقة . ويرى الرومانسيون أن الخيال حين ينشط « يرى أشياء يعمى العقل العاري عن رؤيتها ، وأنه يتصل اتصالاً وثيقاً بالبصيرة أو الشعور أو الحدس . والحق أن الخيال والبصيرة لا?ينفصلان في الواقع ، وإنما يكونان موهبة واحدة في كل الأغراض العملية ، فالبصيـرة تـوقظ الخيال ليعمل ، وهـو بدوره يزيد? في حدتها عندماُ ينشط» .

وقد ميز وردزورث الشاعر والناقد الرومانسي الإنجليزي بين الوهم FANCY والخيال IMAGINATION ويؤكد رقي الخيال وسموه وتعاليه على الوهم ، لأن الوهم « سلبي يغتر بمظاهر الصور ويسخرها لمشاعر فردية عرضية ، أما الخيال فهو العدسة الذهبية التي من خلالها يرى الشاعر موضوعات ما يلحظه أصيلة في شكلها ولونها » .

ولابد من التوقف عند صموئيل كولردج الذي أسهم في إرساء تصور متقدم عن الخيال «وكان كولردج أقرب إلى الحدس منه إلى التجربة ?، وكان أقرب إلى التركيب منه إلى التحليل . لهذا فإنه في هذه النظرة إلى العالم يقدم البصيرة على البصر ، واللب على الدماغ ، ويوجه العقل إلى أن يلبي صوت القلب . إن كـولـردج لم يحجـر على العقل ، وإنما هـو قـد اعتـد بالكشف الحدسي » .

أما موقفه من الخيال فقد استفاد فيه من تصورات «كانت » ومن تصورات صديقه وردزورث ، وميز كولردج بين الخيال والتوهم ، فالخيال ملكة وقوة روحية عاطفية ، لذلك فانها أداة «موحدة » تلمح بين الأشياء جوامعها ، وترى في الأجزاء والعناصر وحدتها ، والتوهم ملكة عقلية تخلو من الروحية العاطفية ، ولذلك فإنها تحشد وتكدس وترص ولكنها لاتصل من هذا كله إلى الوحدة ، التوهم يجمع الجزئيات والعناصر منفصلة متجاورة ، والخيال يصل بقوته الروحية العاطفية إلى ما بين هذه الجزئيات والعناصر من وحدة جوهرية حية .

ويميز كولردج بين الخيال الأولي ، والخيال الثانوي ، والخيال الأولي ملكة إنسانية عامة ، وهي الأداة الأساسية في معرفة الإنسان بعالمه ، فهي ترى المدركات أشكالها ، وتوجد لهذه الأشكال معانيها ، والخيال الثانوي ليس أداة معرفة كالخيال الأولي ، وإنما هو اداة خلق ، الخيال الثانوي هو الخيال الفني وهو أسمى طاقات الإنسان .

إن الخيال الفني له القدرة على التركيب والخلق ، يمزج ويركب ويعيد الخلق ، اما التوهم فهو خلط ومجاورة بين الأشياء الجاهزة ، فهو حالة من حالات الذاكرة تحررت من نسقي الزمان والمكان .

(5)

تخرج صلاح عبد الصبور فنياً ونقدياً من تحت عباءة المدرسة الرومانسية العربية وظل مخلصا لكثير من مبادئها طيلة حياته في إبداعه الفني النقدي على السواء ، وطور جانبا من تصوراتها نحو نـزعة صوفية تدفعنا إلى وصفها بالرومانسية الصوفية ، إذ يبدو عبد الصبور متأثرا بالمنجز الصوفي في كتاباته الإبداعية لمأساة الحلاج ـ مثلا ـ وفي حديثه عن سيرته الفنية في كتابه « حياتي في الشعر » ، إذ يؤكد ذلك في مواطن كثيرة في أثناء تحدثه عن المتصوفة واستخدامه مصطلحاتهم ورموزهم ومحاكاة عباراتهم ، ويطبق ذلك بصورة تكاد تكون متماثلة بين الوجد الصوفي والإبداع الشعري ، كما أنه تأثر برموز الرومانسية العربية ، وبخاصة جبران خليل جبران الذي يعده « قائد » رحلته ،وتأثر أيضا بخصائص الرومانسية الفنية متمثلة « بموسيقاها الرقيقة وقاموسها العفوي المنتقى ، الذي تتناثر فيه الألفاظ ذوات الدلالة المجنحة والإيقاع الناعم » ولكنه تجاوز هذه الرؤية وتجاوز إبداع القصيدة الغنائية التي تنثال فيها « الخواطر والأحاسيس انثيالا عفويا تلقائيا ، بحيث لا يربط بينها إلا التداعي » إلى تشكيل لغوي .

وإذا كانت الرومانسية تعلي من أهمية الذات بوصفها مركزا أساسيا للمعرفة والإبداع فإن صاح عبد الصبور يؤكد عليها من جوانب متعددة ، إذ يرى أن « معرفة النفس » تحولا في مسار الإنسانية ،ومن ثم فإن الإنسان الفرد هو المعبر هذه الذات ، ولذلك تحددت في ضوئها طبيعة المجتمع وحركة التاريخ ، وماهية الفن ، لأنه حين تتناغم آحاد الإنسان يتكون المجتمع وتتشكل حركة التاريخ من حراكه ، ويتولد الفن من لحظات نشوته .

ولم يكن الإنسان أساسا لتحديد طبيعة المجتمع والتاريخ والفن فحسب ، بل انه مركز الكون أيضا ، لأن الكون « قوة عمياء ... والإنسان هو عقله ووعيه ، وعظمة ذلك العقل انه يستطيع ان يعقل ذاته » ، ويتميز الإنسان ـ هنا ـ بقدرته الفائقة على وعي ذاته ووعي العالم الذي يعيش فيه ، أو على حد تعبير عبد الصبور « انه يجعل من نفسه ذاتا وموضوعا في نفس الآونة ، ناظرا ومنظورا إليه ، ومرآة ينقسم ويلتئم في لحظة واحدة » .

إن الإدراك لا يتحدد بانعكاس صور الأشياء في الذهن ، أو تجادلهما معا ، بمعنى أنه ليس تأملا فيما يقع خارج الذات الإنسانية ، بل على العكس من ذلك ، إن الإدراك لديه ينشأ من خلال النظر إلى الذات ومهما يتحقق الوعي ، ولذلك فإن « نظر الإنسان في ذاته هو التحول الأكبر في الإدراك البشري لأنه يحيل هذا الإدراك من إدراك ساكن فاتر إلى إدراك متحرك متجاوز » ، وليس الإدراك هنا مجرد انكباب على النفس وانطواء عليها ، ولكن الذات تصبح مركز للكون ومحورا لصوره وأشيائه ، ويتحدد الإدراك في ضوء ثلاثية أخرى ولعلها تمثل الوجه الآخر لثلاثية الإنسان التي حددت حركة المجتمع والتاريخ والفن ، وتنحصر هذه الثلاثية ـ هذه المرة ـ في ثلاثة أركان تمثل الذات ركنيها الأساسيين ،وتمثل الأشياء الركن الثالث ، فالمعرفة والوعي يتحددان عند عبد الصبور في نوع من الحوار الثلاثي بين ذاته الناظرة ، وذاته المنظورة ، والأشياء ،بمعنى أنه يجعل من ذاته ذاتا وموضوعا في آن ، ويتبادلان المواقع ، إضافة إلى الموضوع المحدد في الأشياء الكائنة خارج الذات المدركة .

وينطلق صلاح عبد الصبور من العام إلى الخاص ، أي أنه تحكمت فيه ثلاثية الإنسان (المجتمع ـ التاريخ ـ الفن ) ، وثلاثية الوعي ( الذات الناظرة ـ الذات المنظورة ـ الأشياء ) لينتقل بعد ذلك إلى كيفية تخليق القصيدة التي تتحكم فيها هي الأخرى ثلاثية ، تلتقي فيها أبعاد الرومانسية الصوفية ، وكيفيات تخليق القصيدة الشعرية .

ويمر إبداع القصيدة لديه بمرحلتين : لا واعية سابقة ـ تشتمل على مكونين من مكونات ثلاثية تخليق القصيدة ـ وواعية لاحقة ، وتتجلى في المرحلة اللاواعية ابرز مقومات النـزعة الرومانسية الصوفية بملامحها المثالية التي ترجع في بعض جذورها إلى التفكير الأفلاطوني ،وترتد جذورها الأخرى إلى التصوف الإسلامي ،وليس هناك من تعارض بين التصورين لدى عبد الصبور لأن الذي يشغل تفكيره انهما ـ المثالية الأفلاطونية والتصوف ـ يعبران عن الداخل ويصدران عنه .

ويتحدد تخليق القصيدة في المرحلة اللاواعية عبر خطوتين ، تمثل الخطوة الأولى ما يطلق عليه « الوارد » الذي حدده مرة « بخاطرة » « هابطة من منبع متعال عن البشر » وكونها « تفد إلى الذهن » أو « تبزغ فجأة مثل لوامع البرق » ، وهي ـ في كل الأحوال ـ تأتي من غامض شأنها شأن الشيء الحزين الذي قال فيه صلاح عبد الصبور :

هناك شيء في نفوسنا حزين

قد يختفي ولا يبين

لكنه مكنون

شيء غريب .. غامض .. حنون

ويضفي عليها أحيانا ـ توصيفات طبيعية أو ذاتية ، فهي « تهبط » كالإلهام ، أو وحي من «منبع » متعال عن البشر ، وفي كل الأحوال لا وجود للجهد الإنساني في تشكيل القصيدة ، أو تخليقها ،لأنها متأتية من مكان آخر إلهامي ، وتنحدر في هبوطها من أعلى غامض إلى أدنى في الذات الإنسانية ، أو انها متدفقة من منبع ، وهو توصيف يذكرنا بالنبع الذي يتدفق من داخل الأرض ،ويحمل كل سمات الداخل، ويستكمل عبد الصبور توصيفها بحدوثه فجأة ، ويستخدم توصيفا طبيعيا وذلك لم بحدوثها فجأة ، فالوارد ـ هنا ـ خاطرة تبزغ فجأة مثل لوامع البرق والبزوغ المفاجئ ،وكونها لامعا يؤكد المعنى السابق في أن عملية الإبداع لا تتأتى بفعل الجهد الإنساني قدر ما هي هبة تقد من مكان آخر ،وتلد فجأة ومضا أو برقا تأكيدا لمثالية الإبداع ووجدانيته المطلقة .

ويضفي سمات معرفية على الوارد الإبداعي حين يتخلق لديه بوصفه فكرة « نابعة من الذات الإنسانية » وهنا يكرر توصيف النبع الذي يؤكد داخلية الإبداع لا خارجيته ،بمعنى أن الإبداع لا يتخلق بسبب مثير خارجي يولد انفعالا في الذات بل على العكس ينبع أو يتدفق من الذات الإنسانية ، وان هذه العلمية تحقق للذات وعيها لنفسها ، فكأن التدفق والبزوغ من الداخل إنما هو شكل من أشكال الفيض الإشرافي الذي يحقق للذات وعيها لنفسها، ثم القبض على العالم لإدراكه ، ومن ثم فإن وعي الذات ووعي الموضوع ( العالم ـ الأشياء ) يتم بفيض ينبع من الداخل .

ويشبه عملية التخليق هذه في ضوء حركة مستقيمة ،تماما كحركة الوقت الذي ينتقل بشكل أفقي تتالى فيه أحداثه كذلك تخليق القصيدة ينتقل من السكون إلى الدوامة ثم إلى التشكيل :

ويمثل السكون المرحلة السابقة للوارد ، وتأتي الدوامة التي يتجلى فيها الوارد « خاطرة ـ أو فكرة ـ أو فيضا » من النفس ، وعليها وعلى الوجود .

ويتكئ صلاح عبد الصبور في تحديد ماهية الوارد على المعجم الصوفي الذي يتضمن « الباده والعارض والوهم » وغيرهما ،ويتوقف للمقارنة فين مصطلحي الباده والوارد ، إذ يمثل الأول « مقدمة للوارد حين يبده القلب ويفجؤه ... ويفتح الطريق للوارد » أما الوارد فإنه « يستغرق القلب وأن يكون له فعل » .

ويعقد عبد الصبور مقارنة بين الوارد الصوفي والحس البرجسوني ، إذ يرى أن الحدس على الرغم من طبيعته المخالفة للتفكير العقلي فإنه يتكئ تماما على المقدمات العقلية ، ويتأسس في ضوئها ، فهو ينبثق في ضوء « المواد الألوية التي يرتبها العقل في وحدة وتناسق » ومن ثم فهو صالح لتفسير الوثبات الفكرية لأنه « قمة عقلية لنشاط عقلي » ويعجز من ثم في تفسير « الوثبات الوجدانية » التي يتمكن الوارد من التعبير عنها .

وفي ضوء هذا يبتعد الوارد كثيرا عن العقل ، ويقترب إلى حد كبير من التصورات الأفلاطونية ، فهو يتشكل بوصفه وافدا ، أو ومضة ، أو فيضا من النفس ، .إن إبداع الشعر عند أفلاطون وصلاح عبد الصبور لا يتم إلا تحت وطأة تأثير قوة غيبية ، يفقد فيها الشاعر وعيه وصوابه ،ولذلك يكشف أفلاطون عن تصوره في عقد المقارنة م كهنة كوبيلا الذين لا يؤدون طقوسهم في الرقص إلا إذا فقدوا صوابهم ، ويرى أن الشعراء ـ الغنائيين بخاصة ـ « لا ينظمون أشعارهم وهم منتبهون ، إذ حينما يبدأون اللحن والتوقيع يأخذهم هيام عنيف ،وينـزل عليهم الوحي الإلهي » .

إذن هناك حالة لا وعي تمكن الشاعر من إبداع الشعر وان الإلهام قذف والقاء في روع الشاعر وليس الشاعر سوى وسيط لنقل ما يلقى إليه ، وان عمله يماثل حالة اللاوعي التي يمارسها كهنة الإلهة كوبيلا ، والصورة نفسها لدى عبد الصبور ، إذ تتخلق القصيدة ـ أساسا ـ في حالة لا وعي يعيشها الشاعر ، وان هناك واردا يفد إليه ، وليس الشاعر سوى ناقل لهذا الوارد ،وان هناك تماثلا بين حالة إبداع الشعر ووجد الصوفي ، وكلا العملين يتم بحالة الاتحاد بقوة غيبية تفيض على الذات وتؤثر فيها .

ويتم تشكيل القصيدة بطريقتين ، الأولى : يرفضها عبد الصبور لأنها توجد بعيدا عن دور الوارد وتأثيره ، والثانية : يتبناها ، وهي « القصيدة ـ الوارد » ويرى أنها تتكون « حين يرد إلى الذهن مطلع القصيدة ، أو مقطع من مقاطعها بغير ترتيب بألفاظ مموسقة ،لا يكاد الشارع يستبين معناها » ، ولا يتحكم الشاعر في بدء تشكيل القصيدة ولا في زمان تدفقها ، أو مكان تشكيلها ،وأخطر من هذا أنه لا يتبين معانيها ، أو الوعي بسماتها وخصائصها ، إنه فعل يشبه فعل الوجدان الصوفي الذي يتلبس الصوفي .

وتمثل « القصيدة كوارد » الخطوة الأولى من مرحلة اللاوعي في تخليق القصيدة ، وتمثل « القصيدة كفعل » الخطوة الثانية ،وهاتان الخطوتان متتاليتان ، وترتبط الثانية بالأولى ارتباط المعلول بعلته . إن الشاعر في الخطوة الأولى في حالة تلق سلبي مطلق إزاء قوة غيبية خارجية ، وهو في حالة لا وعي ،ويستمر في حالته الواعية في الخطوة الثانية ، ويرافقها تعب وجهد وقلق ،أو على حد تعبيره ان الشاعر « يدفع بنفسه إلى رحلة مضنية في طريق قلق » ، ويتأتى هذا كله لأن الشاعر يحاول استحضار الوارد ، بمعنى أنه يتصيده ، ويحاول التعبير عنه بالكيفية نفسها التي عاشها وجدا صوفيا ، ويتكئ الشاعر على عبارات وجدانية صوفية لتوصيف هذه الحالة التي يختلط فيها اتحاد الذات وانفصالها ، واقترانها بالوعي « إن الشاعر يستطيع ان يتقدم خطوات محو هذا المنبع حتى يتصل به » .

ويمثل ما يلف الصورة المثالية لإبداع القصيدة غير أن الشاعر يحدثنا عن العلاقة بين الشاعر والوارد ، بحسب أصول تذكرنا بتقسيمات ابن قتيبة لضروب الشعر ،فحين يتحدث عن إخفاق القصيد يرجع ذلك إلى :

قوة العواطف واحتدامها مع ضعف الشاعر .

قوة الشاعر وممانعته الذاتية فلم يستطع ان ينسلخ عن ذاته بحيث يدع القصيدة تسيطر عليه .

ضعف إحساس الشاعر إزاء ما يرد عليه من خاطر .

أما المرحلة الواعية من إبداع القصيدة فهي عودة الشاعر إلى حالته العادية قبل ورود الوارد إليه « وحياً وقصيدة » وهنا يقوم الشاعر بتنقيح قصيدته بحيث يثبت لفة ، ويمحو أخرى ، أو يقدم أو يؤخر ، ويستبدل شطرا بشطر آخر ، ويبدو أن تنقيح القصيدة هو آخر عمليات الإبداع في القصيدة ، وبذلك يكرر صلاح عبد الصبور بعض أفكار ابن طباطبا العلوي التراثية ،وكذلك بعض أفكار إليوت .