الصورة الشعرية والنشاط الذهني البصري.

ينتج التصوير الذهني البصري للأديب المبدع الكثير من الأعمال الخلاقة، فالرؤية الدقيقة للأشياء تشكل النواة الساخنة والحيوية لانتاج صور شعرية متميزة، ولما كانت الصورة الشعرية تعتمد على العناصر الحسية في بنائها العام وتالف موادها الخام، فبهذه الحالة تلعب الحواس دوراً كبيراً في إيصال التيارات المؤثرة لإضاءة الصورة الشعرية. إذن فأي الحواس أكثر قدرة لتشكيل الصورة الشعرية؟

تظهر الدراسات الحديثة في علم النفس بجداول احصائية ان:(86% منهم قال ان التصور الذهني البصري اقوى ما يمكن، وقال : 69% منهم ان التصوير الذهني السمعي قوي بشكل ملحوظ ثم اللمس، والذوق، والألم). وبهذا نستنتج ان البصر اكثر الحواس نشاطا في التصوير الذهني للصورة، وان الصورة المنتجة من الشعراء تعتمد على اللقطة البصرية، لذلك فان اكثر الشعراء يستهويهم التجانس البصري للصورة ويعتمد الشاعر بشكل عام على الاثارة البصرية لتحفيز القارئ فالخيال الذي يجد مرتعه في التصوير الذهني من اكثر العناصر متعة للشاعر لاستخدامه في رسم صورة، لان التصوير الذهني يساعد الشاعر في البحث عن الضربات اللونية البصرية ويوقظ الصور المرئية النائمة في اللاوعي كي تفلت وتنطلق الى مساحات النص الشعري لان في اللاوعي كنوزا غير مكتشفة لذلك فالتأمل الذاتي للشعر بمختلف اساليبة واتجاهاته هو الخطوة الاولى لاكتشاف هذه الكنوز واستثمارها وبهذا تكون الصورة اكثر ابداعا حين تتفق مع تجربة الشاعر الصادقة وكما يقول (بورسوف):(إن الايحاءات الحسية للصورة تحدد درجة عاطفة الشاعر).

وكما ذكرنا ان الايحاءات الحسية اكثر استخداما للتعبير عن عاطفة الشاعر وأوسع استخداما في البناء الفني وهذا لا يحدث اذا لم تسقه حالة من التأمل الذاتي وان يتعايش الشاعر وينصهر مع ازمته، فحالة التصوير الذهني لا تمتلك الهدوء والاستقرار فهي مخاض دائم قد تحتاج زمنا وقد تلد في نفس اللحظة وقد لا تلد مطلقا فيقفل الشاعر جهازه التصويري وينسحب، فالتصوير الذهني يحتاج الى موهبة فاعلة ومنتجة تعيش محنتها عند الخلق الابداعي، فالتأمل الذهني يصاحبه دائما توتر داخلي، فعلى الشاعر ان يسترخي تماما كي تولد الصورة ولادة طبيعية، لان التشنج يؤدي اما الى تشوه الجنين او الى موته بالإضافة الى ان التصوير البصري يحتاج الى التركيز الذهني الهائل اذن كلما امتازت الصورة ببساطتها معنى هذا انها وليدة جهد ذهني اكسبها قوة وديمومة وثباتا عبر الازمنة. لذا نرى ان البعض من الشعراء المعاصرين الغير موهوبين يكون التصوير الذهني البصري عندهم منطفئا او ينعدم وكما يقول (سي- دي لويس): إن شاعر اليوم لا يتلقى اية مساعدة من الخيال فعلية ان يبدأ من الصفر".

فالتصوير الذهني البصري يعتمد الشحن التخيلي، ويلون الصورة بألوان نقية جذابة إن الرسم البصري للصورة هو ما يميز الكثير من الشعراء فبواسطته يستطيع الشاعر ان يربط وبشخص التكوينات الداخلية للصورة، لأنها تفتن القارئ وتجذبه، فالتصوير البصري له في كل لحظة رؤيا جديدة للأشياء ويبحث عن المصادر الضوئية والزوايا.إن النجاح الذي حققه التصوير الذهني البصري جاء نتيجة سجله الانطباعي في حقل التأثير الشعري بسبب اعتماده على مصادر بصرية كثيرة وغنية لان مخزون الشاعر من الصور البصرية كبير جدا وأكثر من المخزون للحواس الاخرى لذلك يكون التصوير البصري اسرع لنجده الشاعر في حالة الولادة الشعرية لما يمتلكه من ذاكرة نشطة للأشياء التي تختزن الحالات والتجارب التي عاشها الشاعر، كما له القدرة على تجسيد الافكار والمعاني فيتلقفها القارئ دون جهد.

إن المحسوسات البصرية تهب الوعي الموضوعي لانها تعطي القارئ ذلك التجاوب اللذيذ مع الصورة فاللمسات الجمالية اسرع اختراقا للمشاعر الانسانية حيث يستقبلها البصر اكثر من غيرها ويغذي بها جهاز التصوير للاستعانة بها، وبهذا يبقى جهاز التصوير الذهني البصري بنشاط دائم دائم لكثرة ما يستقبله من القطات البصرية.
إن لحظات الاشراق عند الشاعر حينما تبدأ عدسات التصوير الذهني البصري فيشعر بالنشوة الشعرية بولادة القصيدة، وأحيانا قد تلبس المفردات البصرية ثوبا رمزيا نتيجة للتفاهم الموضوعي بين الشاعر وبين مركز التصوير الذهني ولا يعني هذا ان بقية الحواس ليس لها دور في عملية بناء الصورة، فعناصر التأثير كثيرة وتختلف حسب خبرة تجربة الشاعر وطبيعة المؤثر في تلك اللحظة ومدى استفادة الصور الشعرية منه بل اردنا ان نؤكد في دراستنا المبسطة هذه بان التصوير الذهني البصري من اكثر الموانئ التي يبحر منها الشاعر.