الانزياح واللغة الشعرية.

إن الحديث عن خصوصية اللغة الشعرية ألفاظاً وتراكيب وصيغاً وأساليب قد يستدعي حديثاً آخر عن اللغة والشعر والأسلوبية والانزياح وشعرية اللغة، إضافة إلى بعض الظواهر التي تسهم في منح التركيب الشعري خصوصيته الجمالية، مثل الحذف والاعتراض والتقديم والتأخير والمحسنات المعنوية واللفظية والتكرار والازدواج والتنسيق وغير ذلك من الظواهر التي يتميز بها الخطاب الإبداعي.

لقد صار من نافلة القول تأكيد خصوصية التركيب الشعري، هذه الخصوصية التي تساهم في زيادة أسهمه الشعرية، وبهذه الخصوصية يختلف عن الخطاب العادي، الذي يهتم أول ما يهتم بالهدف الإبلاغي عكس الخطاب الإبداعي الذي تتعانق فيه الوظيفة الجمالية الشعرية مع الوظيفة الإبداعية، وبذلك وبغيره يكون التعبير الإبداعي أكثر أثراً في النفس وأداة للتطهير عبر ما يستعمله من أساليب يخص بنى النسيج اللغوي صورة وإيقاعاً ومفردات، وقد انطلقت معظم المناهج الحديثة من لغة النص، وتعطي اللغة الشعرية النص قدرة على الوصول إلى القارئ، وقد تبدأ من استفادة الشاعر من الرصيد الدلالي الذي تمتاز به اللغة.

إن للغة الشعر دوراً هاماً في بناء القصيدة في الآداب الإنسانية، ولم يبتعد كولوريدج عن الحقيقة عندما قال عن لغة الشعر (إنها أعظم عنصر في بنائية القصيدة في الآداب جميعها، ففي أرضها تتجلى عبقرية الأداء الشعري، ومن لبناتها تبنى المعمارات الفنية التي تتآزر على إبداعها مجموعة عناصر متعاضدة متلائمة). (1).

إن الألفاظ موجودة قبل الشعر (كمواد أولية)، لكن الشعر ينسقها وينظمها بطريقة ما بحيث يخرجها عن عاديتها ليجعلها بالتواشج مع سواها شعرية متميزة، وذلك بطريقة التركيب وبالمساق الذي تردد فيه وذلك: (بوساطة الخلق التصويري الذي يكون معادلاً لانفعال الشاعر، هذا الانفعال الذي يحث الخيال على إعادة تحليل وتركيب البناء اللغوي، وذلك ببث حيوية مخصبة في الحياة الجميلة الهادئة الزاهية في أعراق تلك العلاقات التي يزيل عنها رتابتها وينفض نمطيتها بعد أن فقدت اللغة مجازها اللصيق بها في نشأتها الأولى) (2).

إن عدداً من العناصر تسهم في تحفيز ذاكرات الكلمات من أهمها طبيعة تركيب الجملة و(الاستخدام الشعري للغة كطاقات وقوى توجه مسير العبارة وتؤثر بفضل تسلسل أنغامها غير العادية تأثيراً سحرياً غير عادي وهذا التأثير يساهم بالمقدار نفسه في خلق الإحساس بالموقف الشعري أو التجربة الشعرية) (3). كما أن للغة الشعر القدرة على الإيحاء بما لا تستطيع اللغة العادية أن تقوله: (فالأدب يوجد بقدر ما ينجح في قول ما لا تستطيع اللغة العادية أن تقوله، ولو كان يعني ما تعنيه اللغة العادية لم يكن مبرر لوجوده) (4) وقد أوليت اللغة الشعرية بفضل الفتوحات الألسنية وانطلاقاً من (دي سوسير) أهمية كبيرة وانطلقت معظم المناهج النقدية الحديثة من بنى النص اللغوية حيث فرق (سوسير) بين اللغة والكلام وأوضح أن الكلام هو استعمال خاص للغة، إذ اللغة اجتماعية والكلام فردي وخاص.

في الشعر إذن الكلام بلاغي إبلاغي إذ يسعى إلى وظيفة جمالية تتواشج مع الوظيفة الإبلاغية ولغة الخطاب العادي لا انزياح فيها في حين إن شعرية الأدب تقوم من جملة ما تقوم على الانزياح لأن الأدب والشعر خاصة في استعماله للغة يحاول استغلال كل طاقاتها المعجمية والصوتية والتركيبية والدلالية ومن تواشج هذه العناصر تنبعث الوظيفة الجمالية.

ولكن خصوصية استعمال الشعر للغة والدعوة للانزياح وتميز لغة كل مبدع من سواه لا يعني أنه يهدمها لأن (ما يتغير هو معجم اللغة نظراً لارتباط اللغة بنشاط الإنسان الإنتاجي في كل مجالات عمله دون استثناء، أما نظام القواعد فلا يتغير إلا ببطء شديد نحو تحسين القواعد وأحكامها مجدداً. من هنا فإن كل عمل أدبي هو مجرد انتقاء من لغة معينة على أن لا يفهم الانتقاء أنه انتقاء من أشياء جاهزة بل هو خلق خاص). (5).

لذا فإن (مداليل= مدلولات/ الكلمات) في الشعر ليست بالضرورة ذات المداليل المعجمية، إذ إن دلالة الكلمة في الشعر محكومة بمعطيات التركيب والسياق: (إن للانحراف والازورار عن استعمال العادي غرضه الجمالي) (6).

فطريقة استعمال كل مبدع للألفاظ هي التي تخلق له أسلوبه الخاص، من هنا فقد قال الناقد (بوفون) مقولته الشهيرة (الأسلوب هو الرجل نفسه)، بمعنى أن الأسلوب الخاص بهذا المبدع أو ذاك هو حصيلة مجموعة من العمليات الذهنية والفكرية والثقافية وطريقة التناول والمقدرة على التعرف إلى التشابه للوصول إلى التميز، فلغة الأدب تقوم باستغلال بُنى اللغة بكثير من التعمد والتنظيم.

وأي عدم توازن أو خلل بين العناصر اللغوية والتصويرية والإيقاعية سيخفف من شعرية الخطاب وتفرده، إذ شعريته تنبع من تعانق التراكيب المميزة مع العناصر الأخرى، والمبدع الحاذق هو الذي يسخر إمكانات اللغة ويتلاعب بتراكيبها مما يمنح نصه خصوصية شعرية تجعله يتميز من غيره من النصوص.

فمفردات اللغة وتراكيبها وموادها الصوتية والمعجمية هي المادة الأولية ومن الممكن للمبدع أن يضع نصاً متفرداً أو سواه، وإننا ننطلق ها هنا من التخفيف من دور المكانة الإلهامية، وإن كنا لا نلغي دورها لأنها المفتاح. لكن التهذيب والتشذيب والثقافة والوعي هي التي تساهم في تميز هذا النص من سواه.

فالباث في اللغة الشعرية يحرص على أن يتميز أسلوبه بميزات خاصة به، إذ إن اللغة الشعرية غير اللغة العادية، تكشف بالاستعمال الشعري عن درجة من التصوير والقوة والتنظيم يجعلها متفردة عن سواها.

ويحرص الباث على نقاط ارتكاز في نصوصه تشكل محاور لنسيج الخطاب، وهذه المحاور مرتبطة داخلياً بعلاقات متنوعة ثم ترتبط مكونات كل محور من هذه المحاور ضمن سياق الخطاب الشعري، ويتجلى الجمال اللغوي من خلال ارتباط مكونات السياق في نطاق الارتكاز ومحاورها وما يدور فيها.

وللانزياح إضافة إلى كونه عامل تميز للخطاب الأدبي، دور جمالي كبير يسهم في لفت انتباه المتلقي، ومن ثمة التأثير فيه وتوصيل الرسالة التي يريدها الخطاب، فالتفاعل ضروري وهام بين العناصر المنزاحة والعادية لأن هذه العناصر دون تفاعلها لا أهمية لها بل قد تكون عوامل معيقة لشعرية الخطاب. صحيح أن الجزء مهم لكن هذا الجزء يستمد أهميته من تفاعله مع الأجزاء الأخرى في كون عام اسمه الخطاب الشعري والتفاعل ينتج تغيراً في طبيعة المواد المتفاعلة والإطار الذي تنتمي إليه، مما يخلق لها سمات جديدة ووظائف جديدة تكون مميِّزة للخطاب الشعري فيكون الانزياح ها هنا عاملاً سلبياً بدلاً من أن يكون عاملاً إيجابياً.

إن الشيء الثابت هو النظام النحوي، أما المتغير فهو المفردات التي تشمل وظائف هذا النظام مما يخلق لكل نص خصائصه الشعرية والتركيبية، هذه الخصائص التي تتواشج مع النصوص الأخرى بحيث تصير عوامل مميزة لخطاب هذا الباث أو ذاك.

أخيراً يمكن القول: إن الانزياح خاصية هامة من خصائص اللغة الشعرية في كل الآداب العالمية، لقد آن الأوان لإلغاء النظرة التي تقوم على اعتبار الظواهر البلاغية زينة ووشياً والتعامل معها على أنها عناصر هامة في بناء النص الأدبي.

الهوامش:

(1) قاسم، عدنان، 1981 ـ لغة الشعر العربي، ليبيا، ص 6.

(2) عيد، رجاء، 1985 ـ لغة الشعر، منشأة المعارف الإسكندرية، ص 114.

(3) ا لورقي، سعيد، 1984 ـ لغة الشعر العربي الحديث، دار النهضة العربية، ص 670.

(4) فضل، صلاح، 1978 ، نظرية البنائية في النقد الأدبي، مكتبة الأنجلو المصرية القاهرة، ص 316.

(5) الأسعد، محمد، 1980 ـ مقالة في اللغة الشعرية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ص 40.

(6) ديلك رينيه وأوستن دارين: نظرية الأدب، ص 179.