{} عدد الزوار

جدول العطل السنوية

 

استقبال

 

 


 

 


 



 

 

 

 

 

 

 أساتذة

 

   

الثقافة العامة

 

   حينما نتحدث عن الثقافة العامة ، فإننا لا محالة نلج إشكالية مركبة من عدة جوانب اجتماعية وسياسية ، و بالتالي نطرق باب التساؤل الفلسفي الذي يحملنا إلى  إجابات متشعبة ، تتحكم فيها الإيديولوجيات و السياسات العامة الموجهة للنظم الحاكمة ، وفق أنساق يتحكم فيها التأويل و بالتالي لن نخرج بإجابة صحيحة مهما حاولنا .

    وحتى لا أجعل من ماهية الثقافة هي مبتغاي من هذه الصفحات التي هي بين يديكم ، أقدم هذه المساهمات الفكرية المختلفة و المتنوعة في شتى المجالات الفكرية و المعرفية لا سيما الفلسفية منها لأنني أومن بأن ما ينقصنا نحن العرب المسلمين هو امتلاك ناصية الحضاري الإنساني المسيطر حاليا ألا وهو الفكر الغربي . وقبل أن ننتقد هذا الفكر يجب أن نعرفه و أن نتمكن من آلياته .

 

       

عنوان الموضوع المؤلف التاريخ
  التربية البيئية في الإسلام ، مفهومها ـ أهدافها  الدكتور صلاح عبد السميع  15 نونبر 2002
  البيئة من مركزية الإنسان والطبيعة.. إلى الاستخلاف  رانيا نبيل زهران- هبة رءوف عزت  15 نونبر 2002
  الثقافة ... مفهوم ذاتي  الدكتور . نصر محمد عارف  15 نونبر 2002
  الثقافة في الفكر الغربي   ـ  ـ  ـ  ـ  ـ  ـ  ـ  ـ  ـ  ـ  15 نونبر 2002
  الحضارة ... المدنية اختلاف الدلالات باختلاف الحضارات  الدكتور . نصر محمد عارف  15 نونبر 2002
  الثقافة و التراث   ـ  ـ  ـ  ـ  ـ  ـ  ـ  ـ  ـ  ـ   15 نونبر 2002
  العلمانية  الأستاذ . عبد الوهاب المسيري  15 نونبر 2002
  الموضوعية والذاتية  الأستاذ . عبد الوهاب المسيري  15 نونبر 2002
  إشكالية مفهوم حقوق الإنسان  هبة رءوف عزت  16 نونبر 2002
  الأمن القومي  هبة رءوف عزت  16 نونبر 2002
  التعددية ... معضلة العقل السياسي العربي  هبة رءوف عزت  16 نونبر 2002

 

 

التربية البيئية في الإسلام

 

مفهومها ـ أهدافها

 

 

 

 

    إن تفاقم المشكلات البيئية في العالم أجمع وما ترتب عليها من مخاطر تهدد كل الكائنات على السواء أصبح من الأمور التي تستوجب من الجميع المشاركة الفاعلة في مواجهة تلك المشكلات البيئية سواء أكانت مشكلات بيئية على المستوى المادي ( تلوث الهواء ـ تلوث الماء ـ التلوث الإشعاعي ـ التلوث الضوضائي ـ تلوث التربة ـ تلوث الغذاء ...الخ . ) أم مشكلات معنوية ( تلوث خلقي ـ تلوث ثقافي ـ تلوث سياسي ـ تلوث اجتماعي ...الخ ) ومع تسليمنا بأن النمط الثاني ( التلوث المعنوي ) يعتبر الأساس بل والأخطر على البيئة  من كل الأنواع الأخرى ، بل ويستوجب اهتمام خاص من كل الجهات المعنية على مستوى الحكومات أو مستوى الهيئات الرسمية وغير الرسمية .

 

 

    وإذا كانت التربية تعد الأداة ذات الأثر بعيد المدى في تنشئة وإعداد الأجيال إعدادا تربويا يتفق والقيم الأصيلة ، ويؤصل لدى الأجيال مفاهيم خلقية ، واجتماعية تحض على احترام البيئة وتقديرها ، مما أعطى المؤسسات التربوية ( المدارس ، والجامعات ، والمساجد ، والنوادي ...الخ ) دورا بارزا في تحقيق هذا الهدف الأسمى .

 

    ولعل الواقع الذي نحياه  يملى علينا من المشكلات البيئية بأبعادها ( المادية ، والمعنوية )  ما يجعل المؤسسات التربوية عاجزة عن القيام بمهامها وقد يرجع السبب في رأينا إلى عدم وجود منهج واضح وخطة واضحة ذات أهداف يسهل تحقيقها ، وكذلك غياب مفهوم التربية البيئية لدى تلك المؤسسات .

 

  وفى ضوء ما سبق يمكن تعريف التربية البيئية في الإسلام بأنها :

 

    "النشاط الإنساني الذي يقوم بتوعية الأفراد بالبيئة وبالعلاقات القائمة بين مكوناتها ، وبتكوين القيم والمهارات البيئية وتنميتها على أساس من مبادئ الإسلام وتصوراته عن الغاية التي من أجلها خلق الإنسان ، ومطالب التقدم الإنساني المتوازن ".

    وفى ضوء هذا التعريف للتربية البيئية من منظور إسلامي يجب أن يكون هناك تفاعل إيجابي بين الإنسان والبيئة ، وأن يكون ذلك التفاعل شاملا ولا يقتصر على زمان معين أو مكان معين ، وليصبح جهد الإنسان موحدا وموظفا توظيفا حضاريا وتاريخيا في ضوء العقيدة الإسلامية .

    وتتضح حاجتنا الماسة إلى وجود التربية البيئية بصورة تطبيقية وليست نظرية في عصرنا الحالي ، خاصة إذا تعرفنا على مظاهر سوء استخدام البيئة في العالم ، ونذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر :

    في المؤتمر العالمي الثاني للأمم المتحدة حول البيئة والتنمية عام 1992م والذي عقد في ريودي جانيرو في البرازيل ، اجتمع ثلاثون ألف مشارك بما فيهم مئة زعيم ليواجهوا مجموعة حقائق رهيبة منها:

- انخفض إنتاج الحبوب في إفريقيا لكل فرد بمعدل 28% في السنوات الخمس والعشرين الماضية.
- فقدت إثيوبيا 90% من غاباتها منذ عام 1900م، الأمر الذي مكن مليار طن متري من التربة الفوقية من الانجراف سنويا .
- تواجه حيوانات استراليا الأصلية الانقراض، وكان قد انقرض 28% من حيواناتها الأصيلة .
- تحتاج الحياة البحرية في الخليج العربي 180عاما كي تتخلص من عشرة ملايين برميل من النفط التي انسكبت أثناء حرب الخليج .
- تعد 10% من الأنهار المنتشرة في أنحاء العالم ملوثة، كما تلتقط المحيطات 6.5 مليون طن من النفايات سنويا.

    وهكذا تتنافس هذه القضايا الملحة على الاهتمام من قبل صناع القرار في العالم ، وبالإضافة إلى ذلك تتوقع الدراسات أنه بحلول عام 2025 م ستنفث البلدان النامية في الهواء أربعة أضعاف كمية ثاني أكسيد الكربون التي تنفثها الدول المتقدمة اليوم، كما يتوقع أن تفقد الأرض أكثر من 25% من الأجناس الموجودة حاليا.

    إن الإنسان في دول الشمال يستهلك من المياه ويولد من الملوثات بما يزيد عن عشرين ضعفا عن المواطن في دول الجنوب.

    إن التلوث الذي يسببه مواطن أمريكي واحد يزيد على ذاك الذي يسببه مواطن عادي من دول العالم الثالث بعشرين إلى مائة مرة، ويماثل استهلاك الأمريكي الواحد للطاقة ما يستهلكه ثلاثة يابانيين، أو ستة مكسيكيين، أو 13 صينيا أو 35 هنديا أو 153 بنغلادش أو 499 إثيوبيا.

    كما تشير الإحصاءات إلى أن العالم قد خسر في عام واحد فقط، حوالي 36 نوعا من الحيوانات الثديية، 94 نوعا من الطيور بالإضافة إلى تعرض 311 نوعا آخر للخطر، أما الغابات فهي في تناقص مستمر بمعدل 2% سنويا نتيجة الاستنزاف وتلوث الهواء المنتج للأمطار الحامضية، وكذلك التربة فإنها تتناقص باستمرار بمعدل 7% من الطبقة العليا كل عقد، وذلك بسبب الانجراف والتآكل بشكل مستمر نتيجة الإنهاك المستمر بالزراعة الكثيفة أو الري الكثيف، مما يؤدي إلى ملوحة التربة وتصحرها.

    كذلك تسود استخدامات المياه ممارسات خاطئة تؤدي إلى ندرة المياه ونضوبها، عدا عن الانخفاض الطبيعي الحاصل في منسوب المياه في باطن الأرض ، الأمر الذي يهدد البشرية بخطر حقيقي.

    إن هذه الحقائق والإحصاءات توضح مدى خطورة الوضع الذي وصلت إليه الأرض نتيجة سوء استخدام البيئة من قبل الإنسان، وهي مظاهر تستلزم التدخل السريع للإنقاذ، ولا إنقاذ للبشرية إلا بالإسلام.

    وتأتى أهمية وحتمية وجود أهداف للتربية البيئية من منظور إسلامي لتؤكد للجميع أن الإسلام دين يؤكد على احترام وتقدير البيئة انطلاقا من أهداف عدة منها :ـ

1 ـ تنمية الوعي البيئي لدى الإنسان المسلم عن طريق تزويده بالرؤية الصحيحة عن البيئة ومكوناتها بما يحقق دوره المطلوب في الأرض باعتباره خليفة الله فيها .

2 ـ تنمية وتكوين القيم والاتجاهات والمهارات البيئية الإسلامية لدى الإنسان المسلم ، حتى يستطيع على ضوئها مواجهة مختلف صعابها بإرادة قوية ، ومن ثم استغلالها بصورة نافعة بما يحقق أهداف الإسلام .

3 ـ تنمية قدرة الإنسان المسلم على تقويم إجراءات وبرامج التربية والتعليم المتصلة بالبيئة من أجل تحقيق تربية بيئية أفضل .

4 ـ إيجاد التوازن وتعزيزه بين العناصر الاجتماعية والاقتصادية والبيولوجية المتفاعلة في البيئة لما فيه صالح الإنسان المسلم .

5 ـ فهم الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية والطبيعية وعلاقة الإنسان المسلم بالقضايا والتلوث .

القيم البيئية الإسلامية :

    هي " مجموعة الأحكام المعيارية المنبثقة من الأصول الإسلامية ، التي تكون بمثابة موجهات لسلوك الإنسان تجاه البيئة ، تمكنه من تحقيق وظيفة الخلافة في الأرض "

أقسام القيم البيئية الإسلامية :

أولا ـ قيم المحافظة .

ثانيا ـ قيم الاستغلال .

ثالثا  ـ قيم التكيف والاعتقاد .

رابعا ـ قيم الجمال .

1 ـ قيم المحافظة : وتختص بتوجيه سلوك الأفراد نحو المحافظة على مكونات البــيئة وتشمل :

ـ المحافظة على نقاوة الغلاف الجوى .

ـ المحافظة على نظافة الثروة المائية .

ـ المحافظة على رعاية الثروات النباتية .

ـ المحافظة على رعاية الثروات الحيوانية .

ـ المحافظة على استخدام الثروات المعدنية و اللامعدنية.

ـ المحافظة على نظافة الطرقات .

ـ المحافظة على نظافة بيوت الله والبيوت العامة .

ـ المحافظة على الصحة البدنية .

ـ المحافظة على الهدوء وتوفيره .

2 ـ قيم الاستغلال : هي تلك القيم التي تختص بتوجيه سلوك الأفراد نحو الاستغلال الجيد لمكونات البيئة . وتتضمن عدم الإسراف ،وعدم التبذير ، والبعد عن الترف ،الاعتدال والتوازن في كل شيء ، حيث يدعو الإسلام إلى الاعتدال في استهلاك موارده البيئية بحيث تكفى ضرورته وحاجاته ، بدون إفراط ولا تفريط .

3 ـ قيم التكيف والاعتقاد: هي تلك القيم التي تختص بتوجيه سلوك الأفراد نحو التكيف مع بيئتهم ، ونحو تصحيح معتقداتهم السلبية تجاهها وتشمل الآتي :

التكيف مع التغيرات الطبيعية مثل ( قسوة الظروف المناخية ، طبيعة الأرض ) وكذلك الابتعاد عن المعتقدات الخرافية مثل ( التعاويذ والتمائم والتبرك بالشجر ، والكهانة ، والتشاؤم  .. الخ )

4 ـ قيم جمالية  وهى تلك القيم التي تختص بتوجيه سلوك الإنسان نحو التذوق الجمالي لمكونات البيئة  .. قال صلى الله عليه وسلم : (إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس). أخرجه مسلم.

قال تعالى :

{ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور}. سورة فاطر الآية: 27 28.

{قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين، وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا..."   سورة فصلت الآية: 9 - 12.

{ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين}. سورة الحجر.

وتبين الآيات عظيم صنعه وروعة وجمال الصنعة وعظمة الصانع سبحانه وتعالى ، الذي خلق كل شيء جميل .

 

                                                                                   وللحديث بقية  

///////////////////////////////////////////////////////////////

البيئة: من مركزية الإنسان والطبيعة.. إلى الاستخلاف

 

رانيا نبيل زهران- هبة رءوف عزت : دراسة مأخوذة من الأنترنيت

 

 

§             المقدمة

§            البيئة والخضر وشبكة الحياة

§            الإنسان أم العودة إلى الطبيعة ؟

§            علم البيئة البحث عن نموذج جديد

§            البيئة  في الأيدلوجيات السياسية  

§            مستقبل المذهب البيئي في القرن الحادي والعشرين

§            البيئة والاستخلاف الرباني: مدخل نظرية المقاصد

 

 

 

مقدمة

 

الاهتمام بالبيئة المحيطة بالبشر قديم قدم الإنسان نفسه، فالإنسان لا ينفك عن الاحتياج إلى بيئته والتفاعل معها، والانشغال المتخصص بالبيئة والحفاظ على توازنها بالاستخلاف والعمارة وميزان المقاصد الشرعية من الشواغل المهمة في الفقه الإسلامي؛ ولهذا الغرض خٌصصت الأوقاف وفُصلت الأحكام الشرعية تقييدًا لسلطة الإنسان وحركته بإطار الخلافة لله وأمانة الإصلاح في الأرض وعمارتها، وهكذا دخلت علاقة الإنسان بالبيئة في مراتب الضروريات والحاجيات و التحسينيات في مقاصد الشرع من حفظ للدين والنفس والعقل والمال والعرض، وفي هذا الباب كلام كثير مبثوث في أمهات الكتب بل والمؤلفات الأدبية.

    أما الاهتمام بالبيئة وقضاياها في الغرب عبر السياسات البيئية فحديث نسبيًا، وقد ظهر اصطلاح "علم البيئة" ecology  عام 1866 على يد عالم الحيوان الألماني إرنست هايكل. ويشتق اصطلاح "علم البيئة" ecology  من الكلمة اليونانية oikos والتي تعني الموطن، وقد استخدمه هايكل للإشارة إلى "البحث في مجموع علاقات الحيوان ببيئته العضوية وغير العضوية". ومنذ أوائل القرن العشرين عُرف "علم البيئة" بكونه فرعًا من فروع البيولوجي (الأحياء) يبحث في علاقة الكائنات الحية ببيئتها. ولكنه أخذ يتحول إلى اصطلاح "سياسي خصوصا من ستينيات القرن العشرين حيث استخدمته حركات "الخضر" المتصاعدة، وتثير تلك الأيديولوجيا الجديدة وأجندتها قدرًا كبيرًا من الجدل.   

 

البيئة والخضر وشبكة الحياة

 

منذ خمسينيات القرن العشرين استخدم اللون "الأخضر" ليشير إلى التعاطف مع الموضوعات والمشروعات البيئية، ومنذ أواخر سبعينيات القرن العشرين تبنى هذا الاصطلاح عدد متزايد من الأحزاب البيئية كان أولها الألمان الخضر (Die Grünen)، وما لبث أن ظهر موازيًا اصطلاح "البيئية"Environmentalism  الذي استخدم  لوصف أفكار ونظريات تعتقد في جوهرها أن الحياة البشرية لا يمكن فهمها إلا من خلال سياق العالم الطبيعي، وهي بذلك تضم تنوعًا واسع النطاق من المعتقدات العلمية والدينية والاقتصادية والسياسية بدلا من أن تنطوي على مجموعة معينة من السياسات كتلك التي تدعمها حركة الخضر المعاصرة.

ويعود تراجع "البيئية" إلى أنه أحيانا يستخدم للإشارة إلى تناول معتدل أو إصلاحي للبيئة يستجيب إلى الأزمات البيئية، لكن دون بحث الافتراضات التقليدية عن العالم الطبيعي من أساسها. وتكمن فضيلة "المذهب البيئي" ecologism في تأكيده الأهمية المحورية لعلوم البيئة وتناوله لفهم سياسي يختلف اختلافًا نوعيًا عن التناول التقليدي.

وقد أدت دعوة "المذهب البيئي" التي نادت بتغيير سياسي اجتماعي راديكالي وإعادة تفكير جذري في علاقة الإنسان بالطبيعة إلى تطور أفكاره إلى إيديولوجيا قائمة بذاتها.

والأهمية السياسية للعلاقة بين الإنسان والطبيعة في الغرب تعد حديثة الجذور نسبيا، فحتى ستينيات القرن العشرين لم تكن الطبيعة بالنسبة إلى أغلب المفكرين السياسيين الغربيين إلا "مورداً اقتصاديا" على الإنسان أن يستخدمه بكفاءة. وقد تغيرت هذه النظرة بسبب الإدراك المتزايد بأن إساءة استغلال الطبيعة يهدد بقاء الجنس البشري. ومن أوائل الكتابات التي نبّهت إلى وجود أزمة بيئية متزايدة كان كتاب ريتشيل كارسون "الربيع الساكن" (1962)، الذي كان نقداً لما لحق بالحياة البرية وعالم الإنسان من أضرار من جراء الاستخدام المتزايد للمبيدات الحشرية والكيماويات الزراعية الأخرى، والمطالبة باستخدام رشيد للموارد الطبيعية خاصة تلك التي أوشكت على النفاد.

وعلى الرغم من أن السياسات الخضراء والسياسات البيئية الحديثة لم تظهر إلا في ستينيات القرن العشرين فإنه يمكن تتبع الأفكار البيئية إلى ما هو أبعد من ذلك. فقد رأى الكثيرون أن مبادئ المذهب البيئي المعاصر يضرب بجذوره في الديانات الوثنية القديمة التي أكدت مفهوم "الأرض الأم" Mother Earth، وكذلك الديانات الشرقية مثل الهندوسية والبوذية والطاوية.

ومع ذلك يظل المذهب البيئي بالأساس رد فعل على الآثار السلبية للتقدم الصناعي خاصة مع القرن التاسع عشر؛ حيث ولّد امتداد الحياة الصناعية ونمو المدن حنينًا إلى الوجود الريفي النموذجي كما بدا في أعمال روائيين مثل توماس هاردي والمفكرين السياسيين مثل ويليام موريس البريطاني الاشتراكي المؤيد لمذهب الحرية في القرن التاسع عشر، وبيتر كروبوتكين من اللاسلطويين (الأناركيين)، وغالبا ما اشتدت ردود الأفعال المماثلة في أكثر الدول التي شهدت تقدما صناعيا سريعا، وهو ما أثمر تلوثًا بيئيًا وساهم في قيام حركة "العودة إلى الطبيعة" بين الشباب الأوروبي، واشتد الاهتمام بالبيئة بسبب تهديد النمو الاقتصادي لبقاء العنصر البشري والكوكب نفسه الذي يقله. وجاء التعبير عن هذه المخاوف في تقارير منظمات دولية مثل تقرير الأمم المتحدة غير الرسمي "أرض واحدة فقط" (1972) وتقرير "حدود النمو" لنادي روما (1972).

وفي الوقت نفسه نشأ جيل جديد من جماعات الضغط النشطة، مثل: السلام أخضر Green-peace، وأصدقاء الأرض Friends of the Earth التي تسلط الضوء على الموضوعات البيئية كأخطار الطاقة النووية والتلوث وتضاؤل احتياطيات الوقود، وهو ما أثمر تأسيس جماعات أكبر مثل الصندوق الدولي للبيئة - وظهور حركة بيئية شديدة القوة وذائعة الصيت.

ومع ثمانينيات القرن العشرين وصاعدًا احتلت المسائل البيئية الصدارة في الأجندة السياسية للأحزاب الخضراء الموجودة حاليا في معظم الدول الصناعية.

وقد لفتت السياسة البيئية الانتباه إلى موضوعات؛ كالتلوث وصيانة الأنهار والغابات والأمطار الحمضية، والأهم من ذلك قدّم علماء البيئة مجموعة راديكالية جديدة من المفاهيم والقيم لفهم وتفسير العالم، منها النظرة للحرب، والدفاع عن حقوق المرأة.

ويبتعد المذهب البيئي عن الاعتقادات السياسية التقليدية؛ حيث إنه يبدأ بتناول ما تجاهلته تلك الاعتقادات كالعلاقات التي تربط الإنسان بباقي الكائنات الحية والأكثر من ذلك ما يربط الإنسان بـ"شبكة الحياة ويصف الخضر الألمان ذلك في شعار "لا اليسار ولا اليمين بل إلى الأمام".  

 

الإنسان أم العودة إلى الطبيعة ؟

 

انتقد علماء البيئة الافتراض الأساسي الذي يقوم عليه الفكر السياسي الغربي بشأن "مركزية البشرية" أو التمركز حول الإنسان، أي أن البشر هم مركز الوجود. وهو ما دمر وشوه العلاقة بين الإنسان والبيئة الطبيعية، وبدلا من المحافظة على كوكب الأرض واحترامه واحترام الفصائل المختلفة التي تعيش على سطحه سعى الإنسان -كما وصفه جون لوك- ليصبح "سيدا للطبيعة ومالكها"، وساعدت الفردية الليبرالية على انطلاق مشروع التراكم الرأسمالي التحديثي بمقاييسه الاقتصادية النقدية بعيدًا عن التكلفة الإنسانية والطبيعية، معطيًا الإنسان الضوء الأخضر للسيطرة على الطبيعة والزعم بالقدرة على معرفة كل أسرارها بالعلم بعد التحرر من الغيب والدين، فتم استنزاف الطبيعة لراحة الإنسان ومصلحته.

والتقسيم التقليدي بين اليمين واليسار في السياسة والصراع بين الجماعية و الفردانية أو اشتراكية مقابل رأسمالية، يخفي حقيقة مهمة هي أن الموقفين يرميان إلى الهدف نفسه الذي يتمثل في مزيد من الوفرة المادية عبر مزيد من الاستنزاف الفعال للعالم الطبيعي الذي هو أفق العقل الآن وهنا فحسب.

ولم يكن العالم الطبيعي وحده هو الذي تهدد من جراء ذلك، بل أوشك الجنس البشري كله على الدمار في ظل سياسات التصعيد النووي إبان الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين.

ويمثل علماء البيئة نمطا جديدا من السياسة تبدأ من تصور للطبيعة بأنها شبكة من علاقات هشة تربط بين الفصائل الحية بما فيها الجنس البشري وبين البيئة الطبيعية، ولم يعد الجنس البشري يحتل وضعا مركزيا بل أصبح جزءًا لا يتجزأ من الطبيعة ومن ثم وجب على الأفراد التحلي بالتواضع والاعتدال والرقة والتخلي عن الحلم المضلل الذي يجعل من العلم و التكنولوجيا حلاً أسطورياً لجميع المشكلات.  

 

 

/////////////////////////////////////////////////

 

الثقافة
مفهوم ذاتي متجدد

د . نصر عارف
أستاذ مشارك-جامعة جورج تاون


 

    على الرغم من سيادة لفظ "ثقافة" كمرادف للفظ الإنجليزي "Culture"، إلا أن ذلك لا يمنع وجود اختلاف كبير في الدلالات الأصلية بين المفهومين، "الثقافة" في اللغة العربية من "ثقف" أي حذق وفهم وضبط ما يحويه وقام به، وكذلك تعني: فطن ذكي ثابت المعرفة بما يحتاج إليه، وتعني: تهذيب وتشذيب وتسوية من بعد اعوجاج، وفي القرآن: بمعنى أدركه وظفر به كما في قوله تعالى: " مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً" (الأحزاب:61).

 
ومن خلال هذه الدلالات يمكن تحديد أبعاد المفهوم:


1 - إن مفهوم "الثقافة" في اللغة العربية ينبع من الذات الإنسانية ولا يُغرس فيها من الخارج. ويعني ذلك أن الثقافة تتفق مع الفطرة، وأن ما يخالف الفطرة يجب تهذيبه، فالأمر ليس مرده أن يحمل الإنسان قيمًا-تنعت بالثقافة- بل مرده أن يتفق مضمون هذه القيم مع الفطرة البشرية.


2 - إن مفهوم "الثقافة" في اللغة العربية يعني البحث والتنقيب والظفر بمعاني الحق والخير والعدل، وكل القيم التي تُصلح الوجود الإنساني، ولا يدخل فيه تلك المعارف التي تفسد وجود الإنسان، وبالتالي ليست أي قيم وإنما القيم الفاضلة. أي أن من يحمل قيمًا لا تنتمي لجذور ثقافته الحقيقية فهذه ليست بثقافة وإنما استعمار و تماهٍ في قيم الآخر.


3 - أنه يركز في المعرفة على ما يحتاج الإنسان إليه طبقًا لظروف بيئته ومجتمعه، وليس على مطلق أنواع المعارف والعلوم، ويبرز الاختلاف الواضح بين مفهوم الثقافة في اللغة العربية ومفهوم "
Culture" في اللغة الإنجليزية، حيث يربط المفهوم العربي الإنسان بالنمط المجتمعي المعاش، وليس بأي مقياس آخر يقيس الثقافات قياسًا على ثقافة معينة مثل المفهوم الإنجليزي القائم على الغرس والنقل.


وبذلك فإنه في حين أن الثقافة في الفكر العربي تتأسس على الذات والفطرة والقيم الإيجابية، فإنها في الوقت ذاته تحترم خصوصية ثقافات المجتمعات، وقد أثبت الإسلام ذلك حين فتح المسلمون بلادًا مختلفة فنشروا القيم الإسلامية المتسقة مع الفطرة واحترموا القيم الاجتماعية الإيجابية.


4 - أنها عملية متجددة دائمًا لا تنتهي أبدًا، وبذلك تنفي تحصيل مجتمع ما العلوم التي تجعله على قمة السلم الثقافي؛ فكل المجتمعات إذا استوفت مجموعة من القيم الإيجابية التي تحترم الإنسان والمجتمع، فهي ذات ثقافة تستحق الحفاظ عليها أيَّا كانت درجة تطورها في السلم الاقتصادي فلا يجب النظر للمجتمعات الزراعية نظرة دونية، وأن تُحترم ثقافتها وعاداتها. إن الثقافة يجب أن تنظر نظرة أفقية تركيبية وليست نظرة رأسية اختزالية؛ تقدم وفق المعيار الاقتصادي -وحده- مجتمع على آخر أو تجعل مجتمع ما نتيجة لتطوره المادي على رأس سلم الحضارة.


وقد أدت علمنة مفهوم الثقافة بنقل مضمون والمحتوى الغربي وفصله عن الجذر العربي والقرآني إلى تفريغ مفهوم الثقافة من الدين وفك الارتباط بينهما.


وفي الاستخدام الحديث صار المثقف هو الشخص الذي يمتلك المعارف الحديثة ويطالع أدب وفكر وفلسفة الآخر، ولا يجذر فكره بالضرورة في عقيدته الإسلامية إن لم يكن العكس تمامًا.


ووضع المثقف كرمز "تنويري" بالفهم الغربي في مواجهة الفقيه، ففي حين ينظر للأخير بأنه يرتبط بالماضي والتراث والنص المقدس، ينظر للأول -المثقف- بأنه هو الذي ينظر للمستقبل و
يتابع متغيرات الواقع ويحمل رسالة النهضة، وبذلك تم توظيف المفهوم كأداة لتكريس الفكر العلماني بمفاهيم تبدوا إيجابية، ونعت الفكر الديني -ضمنًا- بالعكس.


وهو ما نراه واضحًا في استخدام كلمة الثقافة الشائع في المجال الفكري والأدبي في بلادنا العربية والإسلامية؛ وهو ما يتوافق مع نظرة علم الاجتماع وعلم الاجتماع الديني وعلم الأنثروبولوجيا إلى الدين باعتباره صناعة إنسانية وليس وحيا منزلاً، وأنه مع التطور الإنساني والتنوير سيتم تجاوز الدين..والخرافة!!


أما في المنظور الإسلامي فمثقف الأمة هو المُلمُّ بأصولها وتراثها. وعبر التاريخ حمل لواء الثقافة فقهاء الأمة وكان مثقفوها فقهاء.. وهو ما يستلزم تحرير المفهوم مما تم تلبيسه به من منظور يمكن فيه معاداة الدين أو على أقل تقدير النظر إليه بتوجس كي تعود الثقافة في الاستخدام قرينة التنوير الإسلامي الحقيقي، وليس تنوير الغرب المعادي للإله، والذي أعلن على لسان نيتشه موت الإله فأدى فيما بعد الحداثة إلى موت المطلق و
تشيؤ الإنسان.


والله أعلم.


اتجاهات ترجمة المفهوم للعربية:


مع بداية الاتصال الفكري والمعرفي بين المجتمع العربي والمجتمعات الأوروبية انتقل مفهوم "Culture" إلى القاموس العربي واتخذت الترجمة اتجاهين:


أ - اتجاه ترجمة مفهوم "Culture" إلى اللفظ العربي "ثقافة":


فكان سلامة موسى -في مصر-أول من أفشى لفظ ثقافة مقابل "Culture"- وقد تأثر في ذلك بالمدرسة الألمانية في تعريف ربط الثقافة بالأمور الذهنية، حيث عرّف الثقافة بأنها هي المعارف والعلوم والآداب والفنون التي يتعلَّمها الناس ويتثقفون بها، وميَّز بين الثقافة "Culture" المتعلقة بالأمور الذهنية والحضارة "Civilization" التي تتعلق بالأمور المادية.


ولقد عرفت اللفظة العربية بنفس المضمون الأوروبي للمفهوم، مما شجع الدعوة إلى النقل والإحلال للقيم الغربية محل القيم العربية والإسلامية انطلاقًا من مسلمات الانتشار الثقافي و
المثاقفة.


ب - اتجاه ترجمة "Culture" إلى اللفظ العربي "حضارة":


وهو اتجاه محدود برز في كتابات علماء الاجتماع و الأنثروبولوجيا العرب في ترجماتهم للمؤلفات الأوروبية في هذين الحقلين، وفي المقابل ترجموا لفظ "Civilization" باللفظ العربي "مدنية"

من الأنترنيت

///////////////////////////////////////////////////////

الثقافة في الفكر الغربي


 

    اللفظة العربية "ثقافة" هي الترجمة السائدة للكلمة الإنجليزية "Culture"، وتعود جذور الكلمة الإنجليزية إلى اللفظ اللاتيني "Culture" ويعني حرث الأرض وزراعتها، وقد ظلت اللفظة مقترنة بهذا المعنى طوال العصرين اليوناني والروماني. وفي فترة لاحقة، استخدمها المفكر اليوناني "شيشرون" مجازًا بالدلالات نفسها، حين أطلق على الفلسفة "Mentis Culture" أي زراعة العقل وتنميته، مؤكدًا أن دور الفلسفة هو تنشئة الناس على تكريم الآلهة.


وفي عام 1871م، قدم إدوارد تيلور تعريفًا لهذا المفهوم في كتابه "Primitive culture"، حيث اعتبره "ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعرف وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بصفته عضوًا في مجتمع".


وبانتقال مفهوم "
Culture" إلى "Kultur" الألماني اكتسبت الكلمة مضمونًا جماعيًا، فقد أصبحت تدل على التقدم الفكري الذي يحصل عليه الفرد أو المجموعات أو الإنسانية بصفة عامة. بناءً على ذلك، عالج المفكرون الألمان العلاقة بين علوم الـ "Culture" والعلوم الطبيعية.


من ناحية أخرى اتجه المفكرون الإنجليز إلى النظر في التطبيقات العملية لمفهوم
Culture في المسائل السياسية والدينية، لذلك عرّفها كلايد كلوكهون بأنها: مجموعة طرائق الحياة لدى شعب معيّن في الميراث الاجتماعي التي يحصل عليها الفرد من مجموعته التي يعيش فيها.


الانتشار الثقافي..وهْم استعماري:


وقد تشعب المفهوم وأصبح جزءًا من العلوم الاجتماعية وخاصة علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية، والذي عليه تقوم افتراضات النظريات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية حول تاريخ المجتمعات وتطورها وصورها السابقة والقوانين التي تحكمها، ويتخذ علم الأنثروبولوجيا مفهومي (Culture - Civilization) جوهرًا أساسيًا لمقولاته ونظرياته.


وينطلق علم الأنثروبولوجيا من ثلاث قواعد أساسية تنبع منها نظريات علمائه، وهذه القواعد هي:
1 -
المجتمعات تسير في نسق تطوري في نمط متصاعد؛ انطلاقًا من الحالة البدائية الأولى التي وجد عليها الإنسان في مرحلة ما بعد انفصاله عن عالم الحيوان إلى المرحلة الراقية التي وصل إليها المجتمع الأوروبي المعاصر، والذي يقع على قمة السلم التدريجي، ويتم تقسيم المجتمعات طبقًا لمعايير نابعة من الـ "Culture". ولذلك ظهرت مفاهيم مثل: التحديث، واللحاق بالركب.


2 - الـ "
Culture" تنشأ في مجتمع معين ثم تنتشر في المجتمعات الأخرى، فيما يطلق عليه "الانتشار الثقافي"، أي انتقال الثقافة من المجتمع الأكثر رقيًا إلى المجتمعات الأدنى أو الأقل تطورًا، وتحت هذا المعنى برزت مفاهيم مثل: مسألة الرجل الأبيض والثورات الثقافية.


3 - "
Acculturation" أي التثاقف أو المثاقفة، ويقصد بها تأثر الثقافات بعضها ببعض نتيجة الاتصال بينها، أيَّا كانت طبيعة هذا الاتصال أو مدته، ولقد عرّف "مليفن هرسكوفيتز" التثاقف بأنه: التغيير الثقافي في تلك الظواهر التي تنشأ حين تدخل جماعات من الأفراد الذين ينتمون إلى ثقافتين مختلفتين في اتصال مباشر، مما يترتب عليه حدوث تغييرات في الأنماط الثقافية الأصلية السائدة في إحدى الجماعتين أو فيهما معًا. وغالبًا ارتبط هذا المفهوم بالدور الاستعماري للغزاة الأوروبيين في إفريقيا.
ويعتبر التطور في مفهوم "
Culture" نتيجة منطقية للجذر اللاتيني له، حيث يعبر عن طبيعة الإنسان الأوروبي ودوره في العصور الحديثة تجاه المجتمعات غير الأوروبية، فطبيعة الإنسان الأوروبي أنه صاحب حضارة زراعية يستمد منها رموزه الفكرية، ومن ثم فليس غريبًا إذا ما تعاظم إنتاج الفكر وبدأ غرس القيم الجديدة وحصد ثمار النهضة أن يطلق الإنسان الأوروبي لفظ "Culture" على هذه العملية.


وأما عن دوره تجاه المجتمعات الأخرى فهو مفهوم يعبر عن عملية زرع القيم والأخلاق والمؤسسات الأوروبية في المجتمعات الأخرى تمهيدًا لحصاد هذه المجتمعات سواء عقول مبدعة تهاجر إلى المجتمع الأوربي أو موارد اقتصادية تغذي عجلة اقتصاده

من الأنترنيت


 

الحضارة ... المدنية

اختلاف الدلالات باختلاف الحضارات

د. نصر محمد عارف
أستاذ مشارك - جامعة جورج تاون


    تكتسب "الحضارة" قيمتها باعتبارها الهدف الأسمى في تطور المجتمعات الإنسانية، والمثير أن المفهوم ذاته ما زال مبهمًا، فما المقصود بالحضارة ؟ وما مقوماتها وعناصرها؟ وما علاقة الحضارة بالمدنية؟ وهل المصطلحان مترادفان أم أن هناك فارقًا بينهما؟..



 

حضارة "المدينة" الغربية

يعد لفظ "الحضارة" هو الترجمة الشائعة للفظة الإنجليزية "Civilization"، والتي يعود أصلها إلى عدة جذور في اللغة اللاتينية؛ "Civilties" بمعنى مدنية، و"Civis" أي ساكن المدينة، و"Cities" وهو ما يُعرف به المواطن الروماني المتعالي على البربري. ولم يُتداول الاشتقاق "Civilization" حتى القرن الثامن عشر، حين عرفه دي ميرابو في كتابه "مقال في الحضارة" باعتباره رقة طباع شعب ما وعمرانه ومعارفه المنتشرة بحيث يراعي الفائدة العلمية العامة.


ويبدو أن ما عناه غالبية من استخدموا الكلمة لأول مرة هو مزيج من الصفات الروحية والخلقية التي تحققت على الأقل بصورة جزئية في حياة البشر في المجتمع الأوربي.


وفي الواقع فإن اشتقاق لفظ "
Civilization" من مفهوم "Cities" بمعنى مدينة قد طرح ظلاله على دلالات اللفظ الأول؛ فاستنادًا إلى تقسيم لامبادر مرت المدينة بثلاث مراحل في أوروبا:

1.  مرحلة المدينة ما قبل الصناعية: ظهرت المدينة في أوروبا منذ عهد الإغريق، وكانت عبارة عن وحدة سياسية متكاملة لها حكومة مستقلة ونظام سياسي خاص، ومع دخول المسيحية في أوروبا تمركزت المدينة الأوروبية حول الكاتدرائية، خصوصًا في ظل تدهور وظيفة المدينة في الإدارة المدنية، ومع بداية الحروب الإسلامية المسيحية اتخذت المدن الأوروبية الطابع العسكري التجاري بجانب الطابع الديني، ولاحقًا تراجع دور المدينة وتدنى مستوى المعيشة بها لتدخل العصور المظلمة.

2.  مرحلة المدينة الصناعية: كنتاج لظهور الثورة الصناعية اتسعت المدن الأوروبية، وتمركز حولها عدد كبير من العمال والمنظمين بعد انتقالهم من الريف، وتحولت المدينة إلى موطن لاقتصاد السوق والسلطة السياسية متجهة نحو بلورة تاريخ العالم في تاريخ المدينة.

  1. مرحلة المتروبوليتان: هي مرحلة التطور للمدينة بعد التوسع الرأسمالي والتطور التكنولوجي وظهور شركات عابرة القارات والمنظمات الدولية، حيث ظهرت مراكز عالمية تمثل بؤرًا تتشابك حولها مدن مختلفة ومتباعدة المكان، غير أنها ترتبط "بالمدينة - الأم" برباط وثيق.

وقياسًا على ذلك تجيء التعريفات لمفهوم "Civilization"، فمثلا يعرفه وول ديورانت بأنه "نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة في إنتاجه الثقافي، ويتألف من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون". ولم يمنع ذلك حدوث تداخل كبير في تناول الفكر الأوروبي لمفهوم "Civilization"، فهناك من جعل المفهوم مرادفًا لمفهوم الثقافة، وهناك من جعله قاصرًا على نواحي التقدم المادي مثل أصحاب الفكر الألماني، وهناك من جعله شاملاً لكل أبعاد التقدم مثل المفكرين الفرنسيين.


والملاحظ أن جوهر المفهوم اتجه نحو تلخيص تطور نمط الحياة الأوروبي بكل أبعاده باعتباره المجتمع الأكثر رقيًا أو هو قمة التطور البشري، وقد انعكس ذلك على التقسيمات المقترحة لمراحل التطور البشري التي غالبًا ما تسير في حركة أحادية للتاريخ متجهة نحو النموذج الأوروبي في التطور الصناعي.


الحضارة في القراءة العربية:


وفي بدايات القرن العشرين، ومع دخول الاستعمار الأوروبي إلى الدول العربية، انتقل لفظ "
Civilization" إلى القاموس العربي، وقد حدث اضطراب واضح في المفاهيم لعدم وضوح تعريفات ألفاظ: "ثقافة" و"حضارة" و"مدنية" خاصة مع وجود المفاهيم الثلاثة في اللغة العربية على حين لا يوجد سوى مفهومين في اللغة الإنجليزية، مما أدى إلى انقسام اتجاهات ترجمة المصطلح إلى اتجاهين:

 

1

-

اتجاه ترجمة مفهوم "Civilization" إلى اللفظ "مدنية":

 

على الرغم من عدم شيوع هذه الترجمة لمفهوم "Civilization" إلا أنها أكثر دقة في اختيار اللفظ العربي، وقد بدأ هذا الاتجاه منذ أوائل القرن التاسع عشر، حيث تُرجم في عهد محمد علي باشا كتاب "إتحاف الملوك الألباب بسلوك التمدن في أوروبا"، كما استخدم رفاعة الطهطاوي في كتابه "مناهج الألباب المصرية" مفهوم التمدن في التعبير عن مضمون المفهوم الأوروبي ومشيرًا لوجود بُعد التمدن في الدين والشريعة.


وظل هذا الاستخدام لمفهوم المدنية سائدًا حتى وقت قريب وبالدلالات والمعاني نفسها التي تمثل بها مفهوم "
Civilization"، فقد استخدم المفهوم عام 1936م على أنه "حالة من الثقافة الاجتماعية تمتاز بارتقاء نسبي في الفنون والعلوم وتدبير الملك"، وكذلك أطلق عام 1957م على الظواهر المادية في حياة المجتمع مقابل إطلاق لفظ الحضارة على "Culture"، قاصدًا الظواهر الثقافية والمعنوية في هذه الحياة، حيث المدنية تنقل وتورث، بينما الحضارة "Culture" إنتاج مستقل يصعب اقتباسها ونشرها.


ويختلف الباحثون حول تحديد الجذر اللغوي لكلمة
"المدنية" فيرجعها البعض إلى "مدن" بمعنى أقام في المكان، ويرجعها آخرون إلى "دان" وهي جذر مفهوم الدين وتعني خضع وأطاع، و أيًّا كان مصدرها فقد اقترن اللفظ بتأسيس الدولة الإسلامية، وارتبط بمفهوم الدين بما يعنيه من دلالات الطاعة والخضوع والسياسة، ولقد ارتبطت المدينة في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بنظام مجتمعي حياتي وتنظيمي جديد في الجزيرة العربية ارتكز على القيم الإسلامية والمبادئ التنظيمية المنبثقة عنها.
وعلى خلاف التجربة الغربية، فالمدينة في الخبرة الإسلامية هي نتيجة لوجود قيم التهذيب والعلاقات الاجتماعية والسياسية في الدين الإسلامي، وليست سببًا فيها. ومن ناحية ثانية، فقد بدأت المدينة في الخبرة الإسلامية مما انتهت عليه المدينة في التجربة الأوروبية
"مرحلة المتروبوليتان"، أي المدينة التي تتبعها مدن أخرى وترتبط بها) فقد كانت المدن الإسلامية جميعها حواضر راقية تتبعها مئات المدن الأخرى المنتشرة في الإمبراطورية الإسلامية، على سبيل المثال: كانت المدينة المنورة ثم الكوفة وقرطبة والآستانة مراكز للإمبراطورية الإسلامية على مر تاريخها.

 
ومن ناحية ثالثة، إذا كان تطور المدينة الأوروبية المعاصرة يعد دليلاً على الرقي الإنساني -طبقًا للفكر الغربي- فإن ابن خلدون اعتبر ذات الصورة من رفاهية العيش والاستهلاك طورًا تحدث فيه اختلالات في تطبيق منظومة القيم الإسلامية والضوابط التي تحدد حدود الإنسان، ومنهج تفاعله في الكون، وبالتالي تنافي مفهوم استخلاف الإنسان في الأرض، واعتبر أن مؤشر ذلك هو سكنى الحضر والمدن -مرحلة الحضارة-، وبالتالي فهي لديه نهاية العمران وخروجه إلى الفساد ونهاية الشر والبعد عن الخير.

 

2

-

اتجاه ترجمة "Civilization" إلى اللفظ العربي "حضارة":

 

يُعد هذا الاتجاه هو الأكثر شيوعًا في الكتابات العربية ابتداء من الربع الثاني من القرن العشرين، وبملاحظة التعريفات المقدمة لمفهوم "الحضارة" نلحظ أنها هي نفسها التعريفات التي وضعت إزاء "المدنية"، فالخلاف لفظي والمحتوى واحد وهو المضمون الأوروبي. فعادة، يربط مفهوم الحضارة إما بالوسائل التكنولوجية الحديثة، أو بالعلوم والمعارف والفنون السائدة في أوروبا، أي خلاصة التطور الأوروبي الحالي. وينطلق هؤلاء من أن الحضارة هي جملة الظواهر الاجتماعية ذات الطابع المادي والعلمي والفني الموجود في المجتمع، وأنها تمثل المرحلة الراقية في التطور الإنساني.


بالنظر إلى تطور المفهوم في الكتابات العربية في العلوم الاجتماعية لوحظ أنها تخرج عن ذات الدلالات للمفهوم في الفكر الأوروبي؛ الذي يوحي بعالمية العلم والمنهج والمفاهيم وبالتالي الحضارة.


الحضارة…حضور وشهادة:


والواقع أن مفهوم الحضارة في الفكر واللغة العربية قد يبدو متوافقًا مع جذور المفهوم الأوروبي "
Civilization" -خاصة استخدام ابن خلدون- حين تحدث عن "الحضارة" تلك المشتقة من الإقامة في الحضر بخلاف البادية، ويأتي اللبس من رجوع الباحثين إلى القواميس العربية-حاملين تحيزات مسبقة-لاستخدام الحضارة بمعنى الإقامة في الحضر دون باقي الاستخدامات الأخرى.

 
فلغويًّا، يذكر مفهوم الحضارة للدلالة أولاً على الحضور أو الشهادة التي هي نقيض المغيب، فمثلاً حضر في القرآن الكريم تعني شهد:
"إذا حضر أحدكم الموت" [البقرة:180]، "وإذا حضر القسمة أولو القربى" [النساء:8].


وللشهادة أربعة معانٍ متكاملة تمثل جزءاً من بناء مفهوم الحضارة:

 

1

-

الشهادة بمعنى التوحيد والإقرار بالعبودية لله -عز وجل- وهي محور العقيدة الإسلامية وعليها يتحدد التزام الإنسان بمنهج الخالق -عز وجل- أو الخروج عنه.

2

-

الشهادة بمعنى قول الحق وسلوك طريق العدل، وتعد مدخلاً من مداخل العلم ووسيلة من وسائل تحصيل المعرفة.

3

-

الشهادة بمعنى التضحية والفداء في سبيل الله -سبحانه وتعالى- حفاظًا على العقيدة.

4

-

الشهادة كوظيفة لهذه الأمة "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا" [البقرة:143]، وينصرف معناها إلى الشهادة في الدنيا والآخرة، حيث تكون أمة قوية تقوم على العدل وتعمل به وتدعو إلى عبادة الله وحده.

 

وطبقًا لذلك فإن "الحضارة" في الأصول الإسلامية ينتج عنها نموذج إسلامي يستبطن قيم التوحيد والربوبية، وينطلق منها بعد غيبي يتعلق بوحدانية خالق هذا الكون، ومن ثم فإن دور الإنسان ورسالته هو تحقيق الخلافة عن الخالق في تعمير أرضه وتحسينها، وبناء علاقة سلام مع المخلوقات الأخرى أساسها الدعوة إلى سعادة الدنيا والآخرة.


والواقع أن أي تجربة بشرية يمكن إطلاق لفظ حضارة عليها ما دامت تتوافر فيها الشروط التالية:

 

1

-

وجود نسق عقدي يحدد طبيعة العلاقة مع عالم الغيب ومفهوم الإله سلبًا أو إيجابًا.

2

-

وجود بناء فكري سلوكي في المجتمع يشكل نمط القيم السائدة وهي الأخلاقيات العامة والأعراف.

3

-

وجود نمط مادي يشمل جميع الأبعاد المادية في الحياة.

4

-

تحديد نمط العلاقة مع الكون ومسخراته وعالم أشيائه.

5

-

تحديد نمط العلاقة مع الآخر، أي المجتمعات الإنسانية الأخرى وأسلوب إقناعها بهذا النموذج والهدف من ذلك الإقناع.

 

وتأسيسًا على ذلك، فأن وحدة الأصل الإنساني لا تستلزم بالضرورة وحدة معارفه وعلومه ومناهجه، وبالتالي فتنافس الحضارات أمر منطقي تفرضه طبيعة الوجود البشري ومعطياته؛ لأن الاختلاف سُنة من سنن الله في الكون: "ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم" [الروم:22].


خلاصة القول إن مفهوم الحضارة أو المدنية قد تمحور في الفكر الإسلامي حول قيم العقيدة الإسلامية، والتي مثلت الشرعة والمنهاج للممارسة الإسلامية على العكس من النموذج الغربي الذي اشتق مفرداته من تطوره التاريخي وواقعه المعاشي   

 

 

من الأنترنيت


الثقافة والتراث

 


    إذا كان لكل أمة تراث تعتز به وترجع إليه ، فإن تراث أمتنا العربية عميق الجذور ، فهو يرتبط في منبعه بالأصالة وفي امتداده بالرواية ، وهو بذلك من أهم مصادر ثقافتنا .

    ويشكل المد الثقافي عندنا أهمية بارزة في الهوّية العربية بحكم أنها تستمد جذورها عبر قرون طويلة من تاريخ الأمة العربية مما يدفعها للمحافظة على جذورها الممتدة في أعماق تاريخها المرتبطة بمفرداتها وعناصرها المتجذرة في أصولها ، المواكبة لمكانتها بين الأمم التي تستلهم ماضيها المشرق ولا تنسى حاضرها المؤسف ، وتتطلع إلى مستقبل أفضل من الحاضر ، يواكب طموحات الأجيال المتطلعة إلى حياة أفضل ومجال أرحب في مجال ثقافة أوسع على مستوى التقدم الباهر في هذا العصر .

    ولا يعني الاهتمام بمسايرة العصر أن ندير ظهورنا لماضينا العلمي والفكري ونلهث وراء كل جديد معاصر ، ولو أنه لا يحقق لنا نتيجة ولا يضيف إلى ثقافتنا ما يفيد ، فليس المهم الركض خلف كل مستحدث لحداثته ، حتى لو لم يكن وراءه جدوى ، وإنما الأهم الأخذ من القديم أو الحديث بقدر ما يضيف إلى رصيدنا الفكري ما يدعمه ، وإلى مجالنا العلمي ما يعزره .

    ومن الملاحظ في مسارنا العصري أننا نجد متابعة تقليدية لكل ما يصدر عن الأجنبي ، ولو كان لا يلتقي مع توجهاتنا ولا يزيد رصيدنا ، وأبرز هذه المتابعات ما نلمسه في التحولات الفكرية والمسارات الثقافية ، وقد تنطوي تلك التحولات على شطحات ، ربما امتدت إلى ماله مساس بثوابتنا وجور على قيمنا ، والسبب في ذلك يكمن في ازدراء بعضنا لتراثنا وتجاهل أصولنا وموروثاتنا ، والتطلع إلى ما لدى الغرب، ولو كان من مخلفات الماضي السحيق مما يرجع إلى تراث اليونان والرومان ، فما نقل إلينا من مواريث تلك الأمم البائدة فهو المستحسن في نظر المبهورين منا بما يصدره الغرب إلينا مما يعده من مقومات تراثه ، وما يتصل بتراثنا فإنه لا يستثير نخوتنا العربية للاهتمام به والتعرف عليه، وذلك يتمثل في الانقياد غير المبرر لكل ما يصدر عن الأمم الغربية ، حتى لو كان مخالفـًا لمفاهيمنا ومختلفـًا مع أصالة تراثنا ، على الرغم من توافر الإبداع فيما خلفه أسلافنا من فنون القول ومجالات العلوم والآداب.

    إلا أن بعض المنظّرين من المفكرين العرب المحدثين نسي مآثر الأسلاف في حماسة التلقي عما يصـدر عن الغرب ، ومن أولئك المنظرين من أنكر أن يكون في أدبنا روايات طويلة أو قصص قصيرة ، وأن هذا اللون من الآداب لم يكن له أي ظلال في تراثنا ، ولم تعرف آدابنا إلا ما أخذناه من أدباء غربيين ابتكروا هذا الإنتاج وأبدعوا فيه، ومرد هذا التصور إلى الزهد في الاطلاع على المراجع التراثية في ثقافتنا، ولو أن الذين قالوا بتجريد تراثنا من جميع الفنون المستحدثة التفتوا إلى هذا التراث - كما التفت الغربيون إلى تراث من قبلهم - ومنحوه بعض اهتمامهم لوجدوا أن أسلافنا قد سبقوا الغربيين إلى التنويع في العطاء الأدبي ، فابتكروا في مجال الرواية والقصة ووضعوا الإرهاصات لهذا الفن الأدبي ، حيث ملامح هذا الفن الروائي لدى أبي العلاء المعري في (رسالة الغفران) التي تأثر بها دانتي في روايته التي تماثل (رسالة الغفران) والتي سماها (الجحيم).. كما نجد الملمح الآخر في رواية "روبنسن كروز " الذي ذكر كثيرون من كبار الكتاب أنها مقتبسة من " حي بن يقظان " لابن طفيل .. وتبدو ملامح القصة واضحة في مقامات بديع الزمان الهمداني ومقامات الحريري ، وإن جاء منحاهما لتأصيل اللغة العربية وإثراء مفرداتها ، فقد جاء على منوال الحكاية التي تمثل إرهاصـًا لبناء القصة وتأصيلها في بداية تكوينها الفني .

    ومن قبل ذلك حفل الشعر العربي منذ استهلاله في العصر الجاهلي ـ وعلى امتداد العصور التالية له ـ بملامح هذا اللون القصصي ، فلماذا نتنكر لماضينا ، ونتجاهل تلك الملامح ؟ !! فإنها مهما كانت خافتة في البداية فهي تمثل بوادر مبكرة في عالم الرواية والقصة - ؟!


    فهل من مقتضى الانبهار بالطفرة الحضارية هو أن يهون تراثنا علينا الذي انصرفنا عنه تحت وطأة التهوين منه والتهويل لتراث الآخرين ؟!

    وذلك ما دعا إلى وضع حاجز نفسي بيننا وبين رؤيتنا الواقعية لتراثنا الثقافي ، وإذا كانت هذه نظرة بعضنا إلى هذا التراث في ظل الانبهار بتراث الآخرين ، فقد استطاع صوت أسلافنا أن يعبر القرون ، وأن يحمله الأثير المتجدد إلى العالم في شكل عطاء علمي وثقافي ، وقد كان ذلك التراث بمثابة غذاء فكري وعطاء تنويري .

    وإذا كان من المفيد أن ننفتح على الثقافات الأخرى جميعها على مختلف أنواعها على أساس أن المعرفة العلمية والثقافة بمفهومها العام قاسم مشترك للبشرية يستفيد منها الجميع ، فإننا نجد الغربيين قد استفادوا من إنتاج علمائنا ومفكرينا ، فدرسوا مؤلفاتهم في بدايات النهضة المعاصرة واقتبسوا كثيرًا من الأفكار والدراسات، ونحن على هذا المنوال نسترد الدين فيما نأخذ عنهم دون إخلال بنسق الحياة عندنا، ودون أن يحجب ذلك رؤيتنا الصادقة لمآثر أسلافنا وأمجاد ماضينا .

    ولو استطاع العرب أن يتجاوزوا ضعفهم ويتخلوا عن التفرق بينهم الذي يكرس هوانهم ، وأن يغيروا الصورة الهامشية التي رسمها الغرب لهم والتي يعيشونها في حاضرهم ، لكان بإمكانهم تجديد حيويتهم واستنهاض هممهم و استنفار طاقاتهم ، وبهذا التوجه الحيوي ينتظمون في ركب التقدم الذي تخلفوا عنه مسافات طويلة تقدمتهم مجموعات من الأمم المعاصرة بملايين الأميال ، وهم شبه نائمين استطابوا الكسل فقنعوا من الحياة بالعيش على هامشها ، واكتفوا من التقدم باستغلال وسائله دون المشاركة في العمل والإنتاج .


وواقع الحال هذا مخالف للدين الذي يأمرهم بالعمل ويدعوهم إلى اليقظة ويحفزهم للتقدم ، كما أن ذلك مضاد لنهج التراث الذي ورثوه عن أسلافنا السابقين الذين كانت لهم مناراتهم العلمية وحضارتهم الإسلامية .

    وقد مضت تلك العصور الزاهية بما حققته من معرفة وما تركته من مآثر عليمة وآثار فكرية كانت محل اهتمام الأمم الغربية وموضع الاستفادة منها في نهضتها الحاضرة ، فقد جرى تدريس عدة كتب عربية في مدارس الغربيين بعد أن تُرجمت إلى لغاتهم ؛ لأنها تشتمل على علوم مهمة وثروة معرفية كانوا يفتقرون إليها في بداية نهضتهم ، وقد أصبحت تلك المؤلفات ركيزة لمنطلق الحضارة في بدايتها المبكرة ، فكانت أسماء بعض علمائنا معروفة لدى الغرب أكثر مما هي معروفة لدى بعض المنتسبين إلى الأمة العربية المزدرين لكل ما ينتسب إلى أسلافنا من علم وفكر ، وكأن قد كُتب على الأمة العربية الإسلامية في حاضرها أن تتجرد من ماضيها ، وهذه النظرة الجاحدة تعتبر وصمة عقوق من أبنائها المنتمين إليها بالنسبة المخالفين لها في الروح .

    وذلك المخاض التاريخي الذي تولدت عنه نهضة معرفية عربية مما يؤكد أن تراثنا لا يقل عن أي تراث حضاري إذا وجد له سياج من أبنائه يحميه من الضياع ويصونه عن الابتذال ، فلا يليق بنا أن نظل في موقفنا الحائر نقرع باب العصر فلا يؤذن لنا بالدخول في معتركه ؛ لأننا أمة فرطت في ماضيها ولم تصنع حاضرها ، وبذلك فقدت وجودها في عصر يموج بالحركة السريعة ويزخر بالإنجازات الرائعة والقفزات الباهرة ، ولن نلحق بركب التطور إلا إذا عادت الأمة إلى رشدها فاستلهمت ماضيها العلمي وجددت تاريهخا الحضاري وتحولت إلى واقع جديد في التطلع إلى الأمام والمساهمة في دورة العصر ، فإنها بذلك تستطيع أن تُثبت وجودها وحيويتها وتحتفظ بمكانتها مع بقائها مستمسكة بهويتها .

    والمجتمعات الغربية ـ مع تطورها السريع وإنجازها المتطور وتفوقها غير المحدود فإنها – على اختلاف لغاتها وتعدد شعوبها وتنوع اتجاهاتها – ما زالت تحافظ على التراث الذي ورثته عن حضارات سابقة بقيت لها شواهد مماثلة في المتاحف ومعالم بارزة في السياحة ، كما أنها ظلت محل الاهتمام الجماعي ممثلة في إصدارات حديثة وإخراج جديدة .

    ويمكن لثقافتنا أن تتعايش مع الثقافات المعاصرة متى التفتنا إليها من خلال رؤية موضوعية ، فنأخذ ما يضيف إلى ثقافتنا ولا يجرح هويتنا ، مطلوب من الأمة أن تحافظ على عقيدتها من أن تذوب ففي أي تيار وتلتزم بقيمها من أن تبتذل اتباعـًا لأي تقليد ، وأن تحرص على إيقاظ ماضيها العلمي المتألق وتعمل على تجديد سجلها الحضاري والاندماج في العصر دون الوقوف على عتبة التاريخ أو الاكتفاء بالانزواء في عباءة الماضي ، ولن يرجع المجد الذي اندرس أو يعود الإشراق الذي أفل إلا بالتجاوب مع حركة العصر إلى جانب التمسك بالجذور ، فعلينا أن نرسم لنا هدفـًا نصل إليه ونشق طريقـًا يقودنا إلى المجد ، ونصنع واقعـًا يعلو بنا إلى واقع الأمم الراقية ، ويضعنا على مستوى الشعوب المتفوقة .

 

من الأنترنيت


العلمانية

بقلم/ أ.د.عبد الوهاب المسيري


 

يعد مصطلح "العلمانية" من أهم المصطلحات في الخطاب التحليلي الاجتماعي والسياسي والفلسفي الحديث ، لكنه ما يزال مصطلحاً غير محدد المعاني والمعالم والأبعاد.

 
كلمة "العلمانية" هي ترجمة لكلمة "سيكولاريزم Secularism" الإنجليزية، وهي مشتقة من كلمة لاتينية "سيكولوم Saeculum"، وتعني العالم أو الدنيا و توضع في مقابل الكنيسة، وقد استخدم مصطلح "سيكولارSecular " لأول مرة مع توقيع صلح وستفاليا(عام 1648م)-الذي أنهى أتون الحروب الدينية المندلعة في أوربا- وبداية ظهور الدولة القومية الحديثة (أي الدولة العلمانية) مشيرًا إلى "علمنة" ممتلكات الكنيسة بمعنى نقلها إلى سلطات غير دينية أي لسلطة الدولة المدنية. وقد اتسع المجال الدلالي للكلمة على يد جون هوليوك (1817-1906م) الذي عرف العلمانية بأنها: "الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية دون التصدي لقضية الإيمان سواء بالقبول أو الرفض".

 
و تميز بعض الكتابات بين نوعين: العلمانية الجزئية و العلمانية الشاملة.

 

1

-

العلمانية الجزئية: هي رؤية جزئية للواقع لا تتعامل مع الأبعاد الكلية والمعرفية، ومن

 

ثم لا تتسم بالشمول، وتذهب هذه الرؤية إلى وجوب فصل الدين عن عالم السياسة، وربما الاقتصاد وهو ما يُعبر عنه بعبارة "فصل الدين عن الدولة"، ومثل هذه الرؤية الجزئية تلزم الصمت حيال المجالات الأخرى من الحياة، ولا تنكر وجود مطلقات أو كليات أخلاقية أو وجود ميتافيزيقا وما ورائيات، ويمكن تسميتها "العلمانية الأخلاقية" أو "العلمانية الإنسانية".

 

2

-

العلمانية الشاملة: رؤية شاملة للواقع تحاول بكل صرامة تحييد علاقة الدين والقيم

 

المطلقة والغيبيات بكل مجالات الحياة، ويتفرع عن هذه الرؤية نظريات ترتكز على البعد المادي للكون وأن المعرفة المادية المصدر الوحيد للأخلاق وأن الإنسان يغلب عليه الطابع المادي لا الروحي،ويطلق عليها أيضاً "العلمانية الطبيعية المادية"(نسبة للمادة و الطبيعة).


ويعتبر الفرق بين ما يطلق عليه "العلمانية الجزئية" وما يسمى "العلمانية الشاملة" هو الفرق بين مراحل تاريخية لنفس الرؤية، حيث اتسمت العلمانية بمحدوديتها وانحصارها في المجالين الاقتصادي والسياسي حين كانت هناك بقايا قيم مسيحية إنسانية، ومع التغلغل الشديد للدولة ومؤسساتها في الحياة اليومية للفرد انفردت الدولة العلمانية بتشكيل رؤية شاملة لحياة الإنسان بعيدة عن الغيبيات ، واعتبر بعض الباحثين "العلمانية الشاملة" هي تجلي لما يطلق عليه "هيمنة الدولة على الدين".


وقياسا على ذلك فلقد مرت العلمانية الشاملة بثلاث مراحل أساسية:


 

1

-

مرحلة التحديث: حيث اتسمت هذه المرحلة بسيطرة الفكر النفعي على جوانب الحياة

 

بصورة عامة، فلقد كانت الزيادة المطردة من الإنتاج هي الهدف النهائي من الوجود في الكون، و لذلك ظهرت الدولة القومية العلمانية في الداخل و الاستعمار الأوروبي في الخارج لضمان تحقيق هذه الزيادة الإنتاجية، و استندت هذه المرحلة إلى رؤية فلسفية تؤمن بشكل مطلق بالمادية و تتبنى العلم و التكنولوجيا المنفصلين عن القيمة، و انعكس ذلك على توليد نظريات أخلاقية و مادية تدعو بشكل ما لتنميط الحياة، و تآكل المؤسسات الوسيطة مثل الأسرة.

 

2

-

مرحلة الحداثة: وهي مرحلة انتقالية قصيرة استمرت فيها سيادة الفكر النفعي مع تزايد

 

وتعمق أثاره على كافة أصعده الحياة، فلقد واجهت الدولة القومية تحديات بظهور النزعات الإثنية ، وكذلك أصبحت حركيات السوق (الخالية من القيم) تهدد سيادة الدولة القومية، واستبدل الاستعمار العسكري بأشكال أخرى من الاستعمار السياسي والاقتصادي والثقافي، واتجه السلوك العام نحو الاستهلاكية الشرهة.

 

3

-

مرحلة ما بعد الحداثة: حيث الاستهلاك هو الهدف النهائي من الوجود ومحركه اللذة

 

الخاصة، واتسعت معدلات العولمة لتتضخم مؤسسات الشركات متعددة الجنسيات والمنظمات غير الحكومية الدولية وتتحول القضايا العالمية من الاستعمار والتحرر إلى قضايا البيئة والإيدز وثورة المعلومات، وتضعف المؤسسات الاجتماعية الوسيطة مثل الأسرة، لتحل محلها تعريفات جديدة للأسرة : رجلان وأطفال- امرأة وطفل- امرأتان وأطفال…)، كل ذلك مستنداً على خلفية من غياب الثوابت المعايير الحاكمة لأخلاقيات المجتمع والتطور التكنولوجي الذي يتيح بدائل لم تكن موجودة من قبل في مجال الهندسية الوراثية.


ورغم خروج مصطلح "علمانية" من رحم التجربة الغربية، إلا أنه انتقل إلى القاموس العربي الإسلامي، مثيرًا للجدل حول دلالاته وأبعاده، والواقع أن الجدل حول مصطلح "العلمانية" في ترجمته العربية يعد إفرازاً طبيعياً لاختلاف الفكر والممارسة العربية الإسلامية عن السائد في البيئة التي أنتجت هذا المفهوم، لكن ذلك لم يمنع المفكرين العرب من تقديم إسهاماتهم بشأن تعريف

 العلمانية.


وتختلف إسهامات المفكرين العرب بشأن تعريف مصطلح "العلمانية" ، على سبيل المثال يرفض المفكر المغربي محمد عابد الجابري تعريف مصطلح العلمانية باعتباره فقط فصل الكنيسة عن الدولة، لعدم ملاءمته للواقع العربي الإسلامي، ويرى استبداله بفكرة الديموقراطية "حفظ حقوق الأفراد والجماعات"، والعقلانية "الممارسة السياسية الرشيدة".

 
في حين يرى د.وحيد عبد المجيد الباحث المصري أن العلمانية (في الغرب) ليست أيديولوجية -منهج عمل- وإنما مجرد موقف جزئي يتعلق بالمجالات غير المرتبطة بالشئون الدينية. ويميز د. وحيد بين "العلمانية اللادينية" -التي تنفي الدين لصالح سلطان العقل- وبين "العلمانية" التي نحت منحى وسيطًا، حيث فصلت بين مؤسسات الكنيسة ومؤسسات الدولة مع الحفاظ على حرية الكنائس والمؤسسات الدينية في ممارسة أنشطتها.


وفي المنتصف يجيء د. فؤاد زكريا-أستاذ الفلسفة- الذي يصف العلمانية بأنها الدعوة إلى الفصل بين الدين و السياسة، ملتزماً الصمت إزاء مجالات الحياة الأخرى (الاقتصاد والأدب) وفي ذات الوقت يرفض سيطرة الفكر المادي النفعي، ويضع مقابل المادية "القيم الإنسانية والمعنوية"، حيث يعتبر أن هناك محركات أخرى للإنسان غير الرؤية المادية.
ويقف د. مراد وهبة - أستاذ الفلسفة- و كذلك الكاتب السوري هاشم صالح إلى جانب "العلمانية الشاملة" التي يتحرر فيها الفرد من قيود المطلق والغيبي وتبقى الصورة العقلانية المطلقة لسلوك الفرد، مرتكزًا على العلم والتجربة المادية.
ويتأرجح د. حسن حنفي-المكر البارز صاحب نظرية "اليسار الإسلامي"- بين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة ويرى أن العلمانية هي "فصل الكنيسة عن الدولة" كنتاج للتجربة التاريخية الغربية،ويعتبر د.حنفي العلمانية -في مناسبات أخرى- رؤية كاملة للكون تغطي كل مجالات الحياة وتزود الإنسان بمنظومة قيمية ومرجعية شاملة، مما يعطيها قابلية للتطبيق على مستوى العالم.


من جانب آخر، يتحدث د.حسن حنفي عن الجوهر العلماني للإسلام -الذي يراه ديناً علمانياً للأسباب التالية:

 

1

-

النموذج الإسلامي قائم على العلمانية بمعنى غياب الكهنوت، أي بعبارة أخرى

 

المؤسسات الدينية الوسيطة.

 

2

-

الأحكام الشرعية الخمسة [الواجب-المندوب-المحرم-المكروه-المباح] تعبر عن

 

مستويات الفعل الإنساني الطبيعي، وتصف أفعال الإنسان الطبيعية.

 

3

-

الفكر الإنساني العلماني الذي حول بؤرة الوجود من الإله إلى الإنسان وجد متخفٍ في

 

تراثنا القديم عقلاً خالصًا في علوم الحكمة، وتجربة ذوقية في علوم التصوف، وكسلوك عملي في علم أصول الفقه. و يمكن الرد على تصور علمانية الإسلام، بأنه ثمة فصلا ًحتمياً للدين و الكهنوت عن الدولة في كل المجتمعات الإنسانية تقريباً، إلا في المجتمعات الموغلة في البدائية، حيث لا يمكن أن تتوحد المؤسسة الدينية و السياسية في أي مجتمع حضاري مركب. و في الواقع، هذا التمايز مجرد تمايز المجال السياسي عن الديني، لكن تظل القيمة الحاكمة و المرجعية النهائية للمجتمع (و ضمن ذلك مؤسسات صنع القرار) هي القيمة المطلقة (أخلاقية-إنسانية-دينية) و هي مرجعية متجاوزة للدنيا و للرؤية النفعية.
هذا و قد تبلور مؤخراً مفهوم "ما بعد العلمانية" (بالإنجليزية: بوست سيكولاريزم-
Post-secularism) و صاغه البروفسور جون كين ،و"ما بعد" هنا تعني في واقع الأمر "نهاية"،و تشير إلى أن النموذج المهيمن قد فقد فعاليته، ولكن النموذج الجديد لم يحل محله بعد، حيث يرى أن العلمانية لم تف بوعودها بشأن الحرية و المساواة (حيث تنتشر العنصرية والجريمة والنسبية الفلسفية) وأخفقت في العالم الثالث (حيث تحالفت الأنظمة العلمانية مع الاستبداد والقوى العسكرية) ولم تؤد إلى الجنة العلمانية الموعودة ، ذلك في حين ظلت المؤسسات الدينية والقيم المطلقة فاعلة على مستوى المجتمع وحياة الناس اليومية، في معظم بلدان العالم الثالث .

من الأنترنيت

 


 

الموضوعية والذاتية

بقلم/ د.عبد الوهاب المسيري

 


 

      ترتبط المناهج العلمية في دراسة الإنسان والظواهر الكونية بإشكالية الموضوعية والذاتية، فإذا كان الإنسان كيانًا ماديًا؛ فبالإمكان رصده بشكل ماديّ برَّانيّ/ خارجيّ، أما إذا كان الإنسان كيانًا مركبًا يحوي عناصر مادية ترد إلى عالم الطبيعة / المادية وعناصر غير مادية؛ فالرصد البرَّاني الموضوعي الكافي يصبح غير كافٍ.


ويُشتق "الموضوع
Object" من الفعل اللاتيني "أوبجباكتاري objectary" ومعناه يعارض أو يلقي أمام، المشتق من فعل "جاكري Jacere" بمعنى "يُلقى بـ" و "أوب Ob" بمعنى ضد.


والموضوع: هو الشيء الموجود في العالم الخارجي، وكل ما يُدرَك بالحس ويخضع للتجربة، وله إطار خارجي، ويُوجد مستقلاً عن الإرادة والوعي الإنساني.


وعلى الجانب الآخر، تشتق الذات بالإنجليزية "
subject" عن نفس أصل كلمة object، ولكن بدلاً من "أوب Ob" التي تضاف لكمة "Object" يضاف مقطع "سب sub" بمعنى تحت أو مع. وينسب الذاتي إلى الذات، بمعنى أن ذات الشيء هو جوهره وهويته وشخصيته، وتعبر عما به من شعور وتفكير، والعقل أو الفاعل الإنساني هو المفكر وصاحب الإرادة الحرة، ويُدرِك العالم الخارجي من خلال مقولات العقل الإنساني.


تُعبِّر الموضوعية عن إدراك الأشياء على ما هي عليه دون أن يشوبها أهواء أو مصالح أو تحيزات، أي تستند الأحكام إلى النظر إلى الحقائق على أساس العقل، وبعبارة أخرى تعني الموضوعية الإيمان بأن لموضوعات المعرفة وجودًا ماديًا خارجيًا في الواقع، وأن الذهن يستطيع أن يصل إلى إدراك الحقيقة الواقعية القائمة بذاتها (مستقلة عن النفس المدركة) إدراكًا كاملاً. وعلى الجانب الآخر، كلمة الذاتيّ تعني الفردي، أي ما يخص شخصًا واحدًا، فإن وُصِف شخص بأن تفكيره ذاتي فهذا يعني أنه اعتاد أن يجعل أحكامه مبنية على شعوره وذوقه، ويُطلق لفظ ذاتيّ توسُّعًا على ما كان مصدره الفكر وليس الواقع.


ويعتبر الذاتيّ في الميتافيزيقا رد كل وجود إلى الذات، والاعتداد بالفكر وحده، أما الموضوعيّ فهو رد كل الوجود إلى الموضوع المبدأ الواحد المتجاوز للذات. أما في نظرية المعرفة، فإن الذاتية تعني أن التفرقة بين الحقيقة والوهم لا تقوم على أساس موضوعيّ، فهي مجرد اعتبارات ذاتية، وليس ثمة حقيقة مطلقة، أما الموضوعية فترى إمكانية التفرقة. وفي علم الأخلاق، تذهب الذاتية إلى أن مقياس الخير والشر إنما يقوم على اعتبارات شخصية؛ إذ لا توجد معيارية متجاوزة، أما الموضوعية فترى إمكانية الوصول إلى معيارية. وفي عالم الجمال، تذهب الذاتية إلى أن الأحكام الجمالية مسألة ذوق، أما الموضوعية فتحاول أن تصل إلى قواعد عامة يمكن عن طريقها التمييز بين الجميل والقبيح.

 
وترتبط إشكالية الموضوعية والذاتية بالمفارقة بين الظاهرة الطبيعة والظاهرة الإنسانية. فقد طغت التصوُّرات المادية التي تُوحّد بين الظاهرتين في الفلسفة الغربية، ويعود إسهام علماء مثل وليام ديلتاي (1833 - 1911) إلى محاولة التنبيه إلى أن ثمة فارقًا جوهريًا بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة الإنسانية، فقد أكد أن معرفة الإنسان من خلال الملاحظة البرّانية، وتبادل المعلومات الموضوعية المادية عنه أمر غير ممكن؛ فهو كائن ذو قصد، أي أن سلوكه تحدده دوافع إنسانية جُوَّانية (معنى - ضمير - إحساس بالذنب - رموز - ذكريات الطفولة - تأمل في العقل) وبالتالي فهناك مناهج مختلفة لدراسة كلتا الظاهرتين. وقد قام ديلتاي بنقل مصطلح الهرمنيوطيقا - وهي مشتقة من الكلمة اليونانية "
Hermeneuin" بمعني يُفسِّر أو يوضِّح - من علم اللاهوت - حيث كان يقصد بها ذلك الجزء من الدراسات اللاهوتية المعنى بتأويل النصوص الدينية بطريقة خيالية ورمزية تبعد عن المعنى الحرفي المباشر، وتحاول اكتشاف المعاني الحقيقية والخفية وراء النصوص المقدسة- إلى الفلسفة والعلوم الإنسانية، حيث استخدمه للإشارة إلى المناهج الخاصة بالبحث في المؤسسات الإنسانية، والسلوك الإنساني باعتباره سلوكاً تحدده دوافع إنسانية جُوَّانية يصعب شرحها عن طريق مناهج العلوم الطبيعية.


وانطلاقًا من ذلك يُفرق بين التفسير والشرح. بينما يشير التفسير إلى الاجتهاد في فهم الظاهرة، وجعلها مفهومة إلى حد ما من خلال التعاطف معها وفهمها أو تفهمها من الداخل، يقصد بالشرح إدخال الظاهرة في شبكة السببية الصلبة المطلقة والقوانين الطبيعية، وكشف العلاقة الموضوعية بين السبب والنتيجة. ولقد انعكست إشكالية مناهج دراسة الظاهرة الإنسانية والظاهرة الطبيعية على الدراسات والبحوث من حيث علاقتها بصياغة الفرضيات - هي مقولة أو تقرير مبدئي لما يعتقد أنه علاقة بين متغيرين أو أكثر، ويعكس الفرض تكهنات الباحث بالنسبة لنتائج البحث المرتقبة. فقد اتجهت الفرضيات نحو التبسيط للظواهر الإنسانية، والإيمان بوجود معنى واحد نهائيّ صائب، يمكن الاقتراب منه إن تحلَّى الباحث بالموضوعية والحياد، والاعتقاد بأن المعرفة سلسلة مترابطة الحلقات كل حلقة تؤدي إلى التي تليها، ولا يمكن تخطِّي حلقة منها لأنها تراكمية، والاقتناع بسيادة مفهوم السببيَّة في الظواهر الإنسانية بنفس درجة صلابته في الظاهرة الطبيعية. وقد اتضحت أبعاد الفكر الموضوعي في موقفها من العديد من القضايا الفلسفية مثل الإدراك والواقع وعقل الإنسان.

 

1

-

عقل الإنسان:

 

يعتبر عقل الإنسان صفحة بيضاء قابلة لتسجيل ورصد الوقائع بحياد شديد وسلبية واضحة، يغيب عنه الحيّز الإنساني وتسري عليه القوانين المادية العامة التي تسري على الأشياء، وبالتالي فإن العقل قادر على التعامل مع الموضوعي الخارجي أي العالم المحسوس بكفاءة بالغة، وتقل هذه الكفاءة حينما يتعامل مع عالم الإنسان الداخلي.

 

2

-

الواقع:

 

ينظر للواقع الموضوعي باعتباره واقعًا بسيطًا يتكون من مجموعة من الحقائق الصلبة والوقائع المحددة، وثمة قانون طبيعي واحد يسري على الظواهر الإنسانية والظواهر البشرية على حد سواء، وبالتالي فالحقائق عقلية وحسية تعبر عن كل ما يُحس، حيث العقلي والحسي شيء واحد، وتترابط أجزاء هذا الواقع الموضوعي من تلقاء نفسها حسب قوانين الترابط الطبيعية/ المادية العامة.

 

3

-

الإدراك:

 

تُعتبر عملية الإدراك عملية اتصال بسيط بين صفحة العقل البيضاء والواقع البسيط الخام (منبه فاستجابة)، وهي عملية محكومة مسبقًا بقوانين الطبيعة / المادة، وينظر للارتباط بين الواقع والمعطيات الحسية في عقل الإنسان على أنه عملية تلقائية باعتبار أن الأشياء مرتبطة في الواقع برباط السببية الواضح، ولا تتأثر عملية الإدراك بالزمان أو المكان أو موقع المدرك من الظاهرة.

 

4

-

بعض نتائج الموضوعية المادية:

 

تلغي الموضوعية (المادية) كل الثنائيات، وخصوصًا ثنائية الإنسان والطبيعة. تدور الموضوعية في إطار السببية، وتنقل مركز الإدراك من العقل الإنساني إلى الشيء نفسه، وبالتالي لا تعترف بالخصوصية، ومنها الخصوصية الإنسانية، فهي تركز على العام والمشترك بين الإنسان والطبيعة.. بالإضافة لذلك، لا تعترف الموضوعية بالغائيَّات الإنسانية، ولا بالقصد باعتبارها أشياء لا يمكن دراستها أو قياسها، بينما تفضل الموضوعية الدقة الكمية، وتعتبر المعرفة نتاج تراكم برّاني للمعلومات.

 

5

-

الموضوعية المادية والنموذج التراكمي:

 

النموذج الكامن في الرؤية الموضوعية يفترض أن كل المشتركين في العلوم (إن توافرت لهم الظروف الموضوعية) يفكرون بنفس الطريقة ويسألون نفس الأسئلة، ولذلك فإن عملية التراكم ستوصل إلى نموذج النماذج "القانون العام". ويرى النموذج الموضوعي أن العقل قادر على إعادة صياغة الإنسان وبنيته المادية والاجتماعية في ضوء تراكمه المعرفي وبما يتفق مع القوانين الطبيعية.
ويلاحظ أن ثمة استقطابًا حادًا بين الموضوعية (في تأليهها للكون وإنكارها للذات)، والذاتية (في إنكارها للكون وتأليهها للذات)؛ وبالتالي تصبح العلاقة بين الذات والموضوع واهية، وقد تختفي تمامًا، ولكن ثمة تشابهًا بين الذات والموضوعية، فكلاهما يدور في إطار الحلولية الكمونية التي تفترض وجود مركز للكون داخله (الذات أو الموضوع)، ومن ثم فكلاهما واحدىّ يُلغى المسافة وإمكانية التجاوز.


وفي الواقع فإن بعض الباحثين يؤكدون أن أساس اختيار الحقائق أكثر أهمية ودلالة من الحقائق في ذاتها، وكم المعلومات مهما تضخم لا علاقة له بالصدق أو بالدلالة، فالصدق والكذب ليسا كامنين في الحقائق الموضوعية (أي من حيث هي كذلك)، وإنما في طريقة تناولها، وفي القرار الخاص باختيارها أو استبعادها. ويعتبر البعض أن الافتراضات التي يستند إليها الفكر الموضوعي تنبع من العقلانية المادية لعصر الاستنارة، وقد ثبت أنها افتراضات إما خاطئة تمامًا أو بسيطة إلى درجة كبيرة، ولذا فمقدرتها التفسيرية ضعيفة، وهذا يعود لعدة أسباب:

 

1

-

تركيبية الواقع وخصوصية الظواهر:

 

فالواقع المادي ليس بسيطًا ولا صلدًا ولا صُلبًا، وإنما مركب ومليء بالثغرات، ولا ترتبط معطياته الحسية برباط السببية الصلبة الواضحة؛ إذ ثمة عناصر مبهمة فيه، وثمة احتمالات وإمكانيات كثيرة يمكن أن يتحقق بعضها وحسب ولا يتحقق البعض الآخر.

 ولذا لا يمكن فهم الواقع من خلال القوانين البسيطة الصلبة المطلقة، وإنما من خلال الافتراضات والقوانين الاحتمالية والسببية الترابطية، ولذا أصبح العلماء يدركون خطورة التجريب العلمي، وأنه ليس من الممكن القيام بكل التجارب الممكنة التي تعطي كل الاحتمالات.

 

 

2

-

خصوصية وتركيبية الإدراك:

 

تعتبر عملية الإدراك مسألة غاية في التركيب، فبين المنبه المادي والاستجابة الحسية والعقلية يوجد عقل مبدع ينظم وهو يتلقى. وعملية رصد الإنسان من جانب آخر، تعتبر عملية بالغة التركيب، فالحقائق الإنسانية لا يمكن فهمها إلا من خلال دراسة الفاعل وعالمه الداخليّ والمعنى الذي يسقطه عليه.

 

3

-

خصوصية القول وتركيبية الإفصاح:

 

يمكن للغة التي يستخدمها المدرك للإفصاح عن إدراكه للواقع أن تكون لغة جبرية دقيقة في وصف بعض الظواهر الطبيعية، أما إذا انتقل إلى الظواهر الأكثر تركيباً، فنحن عادة ما نستخدم لغة مركبة قد تكون مجازية أو رمزية أو غير لفظية، وهي لغة تختلف من شخص لآخر. وبناءً على ما سبق يتضح أن فكرة الموضوعية الكاملة والانفصال الكامل للذات المدرِكة عن الموضوع المدرَك مجرد أوهام .

 

من الأنترنيت

 


إشكاليات مفهوم "حقوق الإنسان"

هبة رؤوف عزت


أضحى مفهوم "حقوق الإنسانHuman Rights " من المفاهيم شائعة الاستخدام في الأدبيات السياسية الحديثة وفي الخطاب السياسي المعاصر بشكل عام، وإن كانت العديد من الكتابات التي استخدمت هذا المفهوم لم تهتم بتأصيله، بل أصبح لشدة شيوعه يستعمل بدون تمحيص وكأنه لا مجال لمراجعته؛ لذا فمن المهم قراءة المفهوم في أصوله الغربية ومقارنته بوضع الإنسان وحقوقه/ واجباته في الإسلام.

اكتسب مفهوم حقوق الإنسانHuman Rights  قبولاً على المستوى الأكاديمي والمستوى السياسي الدولي على حد سواء، فقد حاولت العديد من الأدبيات العربية إضفاء الصبغة الإسلامية على المفهوم، فبرزت كتابات تتحدث عن "حقوق الإنسان في الإسلام"، بل صدر بالفعل عن أحد المؤتمرات الإسلامية الدولية "بيان عالمي لحقوق الإنسان في الإسلام"، واحتفظ بنفس مفردات الميثاق العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة مع محاولة إثبات عدم تعارضه مع الإسلام بعرض الأدلة الشرعية التي تساند هذه الحقوق، وهو ما يجعل الإطار الغربي للمفهوم في التحليل الأخير هو المرجعية.

وتثير القراءة في المصادر الغربية حول "حقوق الإنسان" كمفهوم العديد من التحفظات في ذهن الباحث بشأن صلاحية المفهوم وقدرته التفسيرية، ولعل أهم هذه التحفظات هي:

أولاً: غموض المفهوم

 ففي حين يرجعه البعض إلى الرشادة والعقلانية ويلتمس له جذورًا في الفكر الإغريقي ثم المسيحي مباشرة، يرى البعض الآخر أن مصدر الحق هو أولاً القيم والقانون الوضعي ثم العرف والعادة.

وفي الوقت الذي تذكر فيه معظم الكتابات أن مضمون الحق هو أن للإنسان، بحكم كونه إنسانًا بغض النظر عن دينه ولونه وجنسه وكل الفوارق، حدًّا أدنى من الحقوق المكفولة، ترى بعض الكتابات الأخرى أن مضمون الحق جماعي لا فردي.

وتستند أغلب الكتابات الغربية عن حقوق الإنسان إلى عدد من الوثائق التاريخية كإعلان حقوق الإنسان بالولايات المتحدة (إعلان فرجينيا) 1776م، وإعلان الثورة الفرنسية 1790م، ثم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر 1947م عن الأمم المتحدة.

وبرغم أن مفهوم "حقوق الإنسان" حديث نسبيًّا في الثقافة الغربية، بل لم يعرف اليونان مفهوم "الحق" ولم يضعوا له لفظًا يقابله لغويًّا، إلا أن الفكر الغربي التمس له في البداية جذورًا في الفلسفة اليونانية، فأسسه على فكر "القانون الطبيعي" الذي يمكن في إطاره الحديث عن "حق طبيعي"، وهي فكرة تفترض نسقًا من القيم المرتبطة بالإنسان والتي تمثل إنسانيته وتعبر عنها، وهي بدورها فكرة غامضة وتعرضت لانتقادات أبرزها: أنه طالما افتقر "القانون الطبيعي" للوضوح والتجديد والتعاقدية والإلزام الذي يتسم به القانون الوضعي، فإن أي حقوق مرتبطة به تبقى غير محددة وغير معترف بها.

وبرغم قبول الفكر الغربي في تطوره في العصر الروماني ثم المسيحي لفكرة القانون الطبيعي، إلا أن بدايات الصراع بين الكنيسة والدولة في أوروبا شهدت بروز آراء تنتقد فكرة القانون الطبيعي باعتبارها من جهة ذات أبعاد غيبية/ فلسفية قد لا يقبلها البعض، ومن جهة أخرى تفترض ثبات هذا القانون الطبيعي كأصل وعدم تطوره، فطرح البعض مفهوم مبادئ العدالة كأساس لحقوق الإنسان.

ومع إرهاصات عصر البحث عن أساس لا ديني لحقوق الإنسان، برزت فكرة "العقد الاجتماعي" التي تقوم في جوهرها على علمانية نشأة الدولة ونفي البعد الإلهي عنها، ثم استقر في النهاية تأسيس مفهوم حقوق الإنسان على فكرة المنفعة بدءاً من كتابات "بنثام" وحتى الآن.

وقد أدت "المنفعة" كفكرة محورية في مشروع التنوير الغربي في تطورها إلى إخضاع تحليل الظاهرة الاجتماعية والسياسية للمفاهيم الاقتصادية، فكما يبحث الإنسان بشكل عقلاني عن تعظيم منفعته في التبادلات الاقتصادية، كذلك يسعى إلى الوصول إلى "نقطة التوازن" بين منفعته ومنفعة الآخرين في علاقاته الاجتماعية والسياسية، وهو يحترم بذلك حقوق الآخرين كي يضمن احترامهم لحقوقه في ظل مجموعة توازنات واقعية، وقانون وضعي ينظم هذه الحقوق المتبادلة.

وبرغم أن هذه الفكرة تفترض – نظريًّا - وجود نقطة توازن بين حق الفرد وحق الآخرين، ومنفعته ومنفعتهم، إلا أن المنفعة الفردية في الواقع العملي تطغى على الرشادة والعقلانية، وكلما اصطبغت الحقوق بالصبغة التعاقدية والتحديد القانوني، غلبت المنفعة الفردية في العلاقات التي لا ينظمها القانون، وهي كثيرة، وكلما سعى الفرد في بعض الأحيان إلى تطويع القانون ذاته واستغلال ثغراته في سبيل منفعته الفردية التي تحتل الأولوية، وهو ما يمثل إشكالية نظرية ومأزقًا واقعيًّا لمشروع التنوير الذي يمثل أساس الفكر الغربي المعاصر.

ثانيًا: الخصوصية الحضارية للمفهوم وعلمانيته

فالتطور التاريخي لفكرة حقوق الإنسان في الغرب يؤكد أن المعنى المقصود في تشريع الحقوق الإنسانية هو تحقيق الأهداف والقيم الغربية والتي ترتبط بالخبرة التاريخية لسياق حضاري معين، فالانطلاق الفعلي لفكرة حقوق الإنسان جاء مع الثورة الفرنسية، وهدف إلى التخلص من استبداد الملوك، وتزامن مع كتابات مفكري تيار الإصلاح الديني البروتستانتي في أوروبا والتي سعت لإزالة سلطان الكنيسة وكتابات الوضعيين، وهي التي أكدت على فكرة المجتمع المدني وكون الإنسان ذا حقوق طبيعية لا إلهية، "فالطبيعي" يحل محل "الإلهي" أو "الوحي".

مفهوم حقوق الإنسان إذًا هو تركيز للقيم والمبادئ التي انتهى إليها الفكر الأوروبي والرأسمالي في تطوره التاريخي، كما أنه نموذج للمفاهيم التي يحاول الغرب فرض عالميتها على الشعوب الأخرى في إطار محاولته فرض سيطرته ومصالحه القومية، بل ويستغل ذلك سياسيًّا في كثير من الأحيان، كما يحدث في العلاقات الدولية وفي الدفاع عن حقوق بعض الأقليات بهدف زعزعة وضرب النظم السياسية المخالفة والخارجة عن "الشرعية الدولية" و"النظام العالمي الجديد".

وإذا كانت بعض الكتابات الغربية تحاول تأكيد هذه "العالمية" للمفهوم، فإن دراسات أخرى، خاصة في إطار علم الأنثروبولوجيا، تؤكد على نسبية المفهوم وحدوده الثقافية مؤكدة أهمية النظر في رؤية حضارات أخرى للإنسان وحقوقه انطلاقًا من الفلسفة التي تسود الدراسات الأنثروبولوجية الحديثة، وهي التأكد على التباين والتعددية في الثقافات والخصوصيات الحضارية لكل منطقة.

إن الخبرة السياسية ذات أهمية بالغة في بناء المفاهيم، ولعل مفهوم حقوق الإنسان من المفاهيم التي تعكس ذلك بشكل واضح، فقد يُعَدُّ "الجهاد" في التحليل الغربي اعتداءً على السيادة وتدخلاً في شؤون الدول الأخرى ووسيلة من وسائل استخدام القوة في تسوية المنازعات، في حين أنه في الرؤية الإسلامية بدرجاته المختلفة دفاع عن حرية الفرد في اختيار عقيدته وحقه في العلم بدين الإسلام، ووسيلة لردع الباطل ومقاومته.

وعلى المستوى الاجتماعي ترى الكتابات الغربية في تحريم الإسلام زواج المسلمة من غير المسلم تقييداً لحق المرأة وإهدارًا لحقوق الإنسان وتمييزًا على أساس العقيدة وحرمانًا للمرأة من حرية اختيار شريكها، في حين تراه الرؤية الإسلامية حفاظًا على الشكل الإسلامي للأسرة وحماية لعقيدة الأطفال وصونًا للمرأة المسلمة من أن يكون صاحب القوامة عليها غير مسلم، وهكذا.

وقد أدى هذا الاختلاف إلى هجوم بعض الكتابات الغربية على الإسلام واتهامه بأنه هو العدو والتحدي الحقيقي لحقوق الإنسان بمفهومها "العلماني" و"العالمي"، فهذه الكتابات لم تدرك اختلاف المفاهيم الإسلامية عن غيرها، ومرجعيتها المتميزة نتيجة ارتباطها بالشرع، وبحث أصحابها عن مفهوم "حقوق الإنسان" بعناصره الغربية ولفظه اللغوي فلم يجدوه، وغفلوا عن خصوصية اللغة وخصوصية الرؤية الإسلامية للإنسان وحقوقه، فالإسلام قد بالغ في رعايته حقوق الإنسان إلى الحد الذي جعلها في نظره ضروريات، ومن ثَمَّ أدخلها في إطار الواجبات، فالمأكل والملبس والمسكن والأمن وحرية الفكر والاعتقاد والتعبير والمشاركة في صياغة النظام العام للمجتمع ومحاسبة أولي الأمر، كل هذه أمور نظر إليها الإسلام لا باعتبارها فقط حقوقًا للإنسان "يمكن" السعي للحصول عليها والمطالبة بها، بل هي ضرورات واجبة للإنسان، والمحافظة عليها هي محافظة على ضرورات وجوده التي هي مقاصد الشرع، فضلاً عن حفظ حاجيَّات هذا الوجود بوضع أحكام العلاقات الإنسانية في سائر المعاملات، وأخيرًا، حفظ تحسينيات الوجود الإنساني من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات.

إن منطلق حقوق الإنسان في الخطاب الغربي هو الحق الطبيعي المرتبط بذاتية الإنسان من الناحية الطبيعية - بغض النظر عن الفكر والمنهج - بينما الحق الشرعي للإنسان في الإسلام يستند إلى التكريم الإلهي ويرتبط بمفاهيم الأمانة والاستخلاف والعبودية لله وعمارة الأرض، ولا ينفصل عن حقوق الله لارتباطه بالشريعة التي تنظمه، وهو ما يجعله غير قابل للإسقاط بعقد أو صلح أو إبراء، فحقوق الإنسان الشرعية ليس من حق الفرد أو الجماعة التنازل عنها أو عن بعضها، وإنما هي ضرورات إنسانية توجب الشريعة الحفاظ عليها من قبل الدولة والجماعة والفرد، فإذا قصَّرت الدولة وجب على الأمة أفرادًا وجماعات تحملها؛ لذا كان مدخل "الواجب الشرعي" في الرؤية الإسلامية هو المدخل الأصح لفهم نظرة الإسلام للإنسان ومكانته وحقوقه، خاصة السياسي منها، تحقيقًا للمنهج الذي يربط بين الدراسة الاجتماعية السياسية والمفاهيم الشرعية من أجل بلورة رؤية إسلامية معاصرة.

 

من الأنترنيت


الأمن القومي

دكتور/ زكريا حسين-أستاذ الدراسات الإستراتيجية
المدير الأسبق لأكاديمية ناصر العسكرية -مصر


 

على الرغم من الأهمية القصوى لمفهوم "الأمن" وشيوع استخدامه، فإنه مفهوم حديث في العلوم السياسية، وقد أدى ذلك إلى اتسامه بالغموض مما أثار عدة مشاكل، فلا يُعَدُّ اصطلاح "الأمن" هو أفضل المصطلحات للتعبير عن الأمن الوطني للدولة المعاصرة من ناحية، كما لم يتبلور المفهوم لكي يصبح حقلاً علميًّا داخل علم السياسة –منفصلاً عن علوم الإستراتيجية- تطبق عليه قواعد تأسيس النظرية، بدءاً من وضع الفروض وتحديد مناهج البحث الملائمة، واختيار أدوات التحقق العلمي، وقواعد الإثبات والنفي وإمكانية الوصول إلى نظرية عامة، وبالتالي الوصول إلى قانون يحكم ظاهرة "الأمن الوطني".

ويعود استخدام مصطلح "الأمن" إلى نهاية الحرب العالمية الثانية؛ حيث ظهر تيار من الأدبيات يبحث في كيفية تحقيق الأمن وتلافي الحرب، وكان من نتائجه بروز نظريات الردع والتوازن، ثم أنشئ مجلس الأمن القومي الأمريكي عام 1974م، ومنذ ذلك التاريخ انتشر استخدام مفهوم "الأمن" بمستوياته المختلفة طبقًا لطبيعة الظروف المحلية والإقليمية والدولية.

أولاً: مفهوم الأمن

على الرغم من حداثة الدراسات في موضوع "الأمن" فإن مفاهيم "الأمن" قد أصبحت محددة وواضحة في فكر وعقل القيادات السياسية والفكرية في الكثير من الدول.. وقد برزت كتابات متعددة في هذا المجال، وشاعت مفاهيم بعينها في إطاره لعل أبرزها "الأمن القومي الأمريكي" و"الأمن الأوروبي" و"الأمن الإسرائيلي" و"الأمن القومي السوفييتي" قبل تفككه.

* وفي مجال التوصل إلى مفهوم متفق عليه "للأمن"، فإنه يجدر بنا التعرف على ذلك المدلول في إطار المدارس الفكرية المعاصرة.

** "فالأمن" من وجهة نظر دائرة المعارف البريطانية يعني "حماية الأمة من خطر القهر على يد قوة أجنبية".

** ومن وجهة نظر هنري كسينجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق يعني أي تصرفات يسعى المجتمع عن طريقها إلى حفظ حقه في البقاء.

ولعل من أبرز ما كتب عن "الأمن" هو ما أوضحه "روبرت مكنمارا" وزير الدفاع الأمريكي الأسبق وأحد مفكري الإستراتيجية البارزين في كتابه "جوهر الأمن".. حيث قال: "إن الأمن يعني التطور والتنمية، سواء منها الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية في ظل حماية مضمونة". واستطرد قائلاً: "إن الأمن الحقيقي للدولة ينبع من معرفتها العميقة للمصادر التي تهدد مختلف قدراتها ومواجهتها؛ لإعطاء الفرصة لتنمية تلك القدرات تنمية حقيقية في كافة المجالات سواء في الحاضر أو المستقبل".

ولعل أدق مفهوم "للأمن" هو ما ورد في القرآن الكريم في قوله - سبحانه وتعالى -: "فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِنْ جُوعٍ وآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ". ومن هنا نؤكد أن الأمن هو ضد الخوف، والخوف بالمفهوم الحديث يعني التهديد الشامل، سواء منه الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي، الداخلي منه والخارجي.

وفي إطار هذه الحقيقة يكون المفهوم الشامل "للأمن" من وجهة نظري هو:

"القدرة التي تتمكن بها الدولة من تأمين انطلاق مصادر قوتها الداخلية والخارجية، الاقتصادية والعسكرية، في شتَّي المجالات في مواجهة المصادر التي تتهدَّدُها في الداخل والخارج، في السلم وفي الحرب، مع استمرار الانطلاق المؤمَّن لتلك القوى في الحاضر والمستقبل تخطيطاً للأهداف المخططة".

ثانيًا: ركائز وأبعاد ومستويات الأمن

على ضوء المفهوم الشامل للأمن، فإنه يعني تهيئة الظروف المناسبة والمناخ المناسب للانطلاق بالإستراتيجية المخططة للتنمية الشاملة، بهدف تأمين الدولة من الداخل والخارج، بما يدفع التهديدات باختلاف أبعادها، بالقدر الذي يكفل لشعبها حياة مستقرة توفر له أقصى طاقة للنهوض والتقدم.

* من هنا فإن شمولية الأمن تعني أن له أبعادًا متعددة..

أولها: البُعْد السياسي.. ويتمثل في الحفاظ على الكيان السياسي للدولة.

ثانيًا: البُعْد الاقتصادي.. الذي يرمي إلى توفير المناخ المناسب للوفاء باحتياجات الشعب وتوفير سبل التقدم والرفاهية له.

ثالثًا: البُعد الاجتماعي.. الذي يرمي إلى توفير الأمن للمواطنين بالقدر الذي يزيد من تنمية الشعور بالانتماء والولاء.

رابعًا: البُعْد المعنوي أو الأيديولوجي.. الذي يؤمِّن الفكر والمعتقدات ويحافظ على العادات والتقاليد والقيم.

خامسًا: البُعْد البيئي.. الذي يوفِّر التأمين ضد أخطار البيئة خاصة التخلص من النفايات ومسببات التلوث حفاظاً على الأمن.

* هذا ويتم صياغة الأمن على ضوء أربع ركائز أساسية:

أولاً: إدراك التهديدات سواء الخارجية منها أو الداخلية.

ثانيًا: رسم إستراتيجية لتنمية قوى الدولة والحاجة إلى الانطلاق المؤمَّن لها.

ثالثًا: توفير القدرة على مواجهة التهديدات الخارجية والداخلية ببناء القوة المسلحة وقوة الشرطة القادرة على التصدي والمواجهة لهذه التهديدات.

رابعًا: إعداد سيناريوهات واتخاذ إجراءات لمواجهة التهديدات التي تتناسب معها.. وتتصاعد تدريجيًّا مع تصاعد التهديد سواء خارجيًّا أو داخليًّا.

* وللأمن أربعة مستويات:

أولاً: أمن الفرد ضد أية أخطار تهدد حياته أو ممتلكاته أو أسرته.

ثانيًا: أمن الوطن ضد أية أخطار خارجية أو داخلية للدولة وهو ما يُعبَّر عنه "بالأمن الوطني".

ثالثًا: الأمن القُطري أو الجماعي، ويعني اتفاق عدة دول في إطار إقليم واحد على التخطيط لمواجهة التهديدات التي تواجهها داخليًّا وخارجيًّا، وهو ما يعبر عنه "بالأمن القومي".

رابعًا: الأمن الدولي.. وهو الذي تتولاه المنظمات الدولية سواء منها الجمعية العامة للأمم المتحدة أو مجلس الأمن الدولي و دورهما في الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين.

المفهوم في النظام العربي:

بدأ الفكر السياسي العربي في الاهتمام بصياغة محددة ومفهوم متعارف عليه في منتصف السبعينيات، وتعددت اجتهادات المفكرين العرب من خلال الأبحاث والدراسات والمؤلفات سواء في المعاهد العلمية المتخصصة، أو في مراكز الدراسات السياسية، والتي تحاول تعريف ذلك الأمن، ولعل من المهم أن نشير إلى أن ميثاق جامعة الدول العربية، والذي وضع عام 1944م، وأنشئت الجامعة على أساسه في مارس عام 1945م، لم يذكر مصطلح "الأمن"، وإن كان قد تحدث في المادة السادسة منه عن مسألة "الضمان الجماعي" ضد أي عدوان يقع على أية دولة عضوة في الجامعة، سواء من دولة خارجية أو دولة أخرى عضوة بها. كما أن معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي بين الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية والموقعة عام 1950م، قد أشارت إلى التعاون في مجال الدفاع، ولكنها لم تشر إلى "الأمن"، ونصَّت المادة الثانية منها على ما أطلق عليه "الضمان الجماعي"، والذي حثَّ الدول الأعضاء على ضرورة توحيد الخطط والمساعي المشتركة في حالة الخطر الداهم كالحرب مثلاً، وشكَّلت لذلك مجلس الدفاع العربي المشترك، والذي يتكون من وزراء الدفاع والخارجية العرب.

كما أُنشئت اللجنة العسكرية الدائمة، والتي تتكون من رؤساء أركان الجيوش العربية، هذا ولم تبدأ الجامعة العربية في مناقشة موضوع "الأمن القومي العربي" إلا في دورة سبتمبر 1992م، واتخذت بشأنه قرار تكليف الأمانة العامة بإعداد دراسة شاملة عن الأمن القومي العربي خلال فترة لا تتجاوز ستة أشهر تعرض بعدها على مجلس الجامعة.

وقد تم إعداد ورقة عمل حول مفهوم الأمن "القومي العربي"؛ لمناقشتها في مجلس الجامعة العربية، وحددت الورقة ذلك المفهوم بأنه..

".. قدرة الأمة العربية على الدفاع عن أمنها وحقوقها وصياغة استقلالها وسيادتها على أراضيها، وتنمية القدرات والإمكانيات العربية في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، مستندة إلى القدرة العسكرية والدبلوماسية، آخذة في الاعتبار الاحتياجات الأمنية الوطنية لكل دولة، و الإمكانات المتاحة، والمتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية، والتي تؤثر على الأمن القومي العربي."

هذا ولم تعرض الدراسة الشاملة عن الأمن القومي العربي على مجلس الجامعة، كما أن العديد من المفكرين عبَّروا عن قصور المفهوم الذي توصلت إليه اللجنة؛ حيث اتسم المفهوم بالغموض من جانب، والخلط بين التعريف والإجراءات من جانب آخر؛ ولهذا فإن الورقة أفاضت بعد ذلك في تحديد إستراتيجيات العمل الوطني في كافة المجالات، ولم تحدد اختصاصات تنفيذ ومتابعة أيٍّ منها.

في النهاية يمكن القول: إن الفكر السياسي العربي لم ينتهِ بعد إلى صياغة محددة لمفهوم "الأمن القومي العربي" يواكب تحولات المناخ الإقليمي والدولي و توازناته وانعكاسها على تصور وأبعاد هذا الأمن، وإن هذا الموضوع ما زال مطروحاً للتحليل ومفتوحاً للمناقشة رغم كل ما كتب عنه.

 

من الأنترنيت

 


 

التعددية.. معضلة العقل السياسي العربي


 

 

د. هبة رءوف عزت

 

تُعد الأسئلة التي يثيرها العقل الحضاري في لحظات تاريخية معينة أهم من الإجابات التي يسعى لتقديمها؛ ذلك أن بذل الجهد في الإجابة المتأنية المدققة على أسئلة خاطئة في جوهرها هو العثرة التي يقع فيها الفكر في مرحلة تاريخية ما، وتصبح إعادة النظر في الأسئلة ذاتها ومراجعة المسلّمات و الموضوعات التي استقر عليها هي بداية النهضة ومفتاح التجديد المنشود.

وما تطوُّر العلم الاجتماعي وتجاوزه مرحلة تلو الأخرى في حقيقة الأمر إلا نتاجُ تأملات ونظرات لأئمة جددوا في منطلقات و موضوعات وأدوات العلم، خاصة إذا أدركنا أن علاقة المنهج العلمي بالواقع في الرؤية الإسلامية لا تقف عند حدود الاستجابة لتطوره ورصده، بل تتجاوز ذلك إلى التأثير في هذا الواقع وتقويمه والوقوف منه موقف المسئولية.

ويلاحظ الباحث في النظرية السياسية المعاصرة في بلدان العالم الإسلامي الانشطار الواضح الذي يعاني منه العقل السياسي الإسلامي بين مدرسة تتبنى النظرية الفقهية التقليدية، ولا تخرج في جوهر منهاجيتها عن منهاجية و موضوعات كتب السياسية الشرعية القديمة، باستثناء بعض المحاولات القليلة للإضافة والتجديد في التحليل، وليس في المنهاجية أو الفلسفة أو الموضوعات المستقر عليها.

ومدرسة ثانية تسعى إلى بناء نظرية سياسية باللجوء إلى تبني المنهاجية الغربية والمفاهيم المعتمدة، والسعي إلى إثبات اتفاقها مع مبادئ نظام الحكم في الإسلام؛ من حزبية، وشكل للدولة، وأنظمة للحكم، دون محاولة لتأصيل رؤية إسلامية مستقلة إلا فيما ندر.

وتقف بين المدرستين فئة قليلة من الباحثين تسعى إلى تحقيق الربط المفقود بين المنهاجيتين واستيعاب لغة الفريقين.


ولعل أبرز أسباب هذا الانشطار والاستقطاب هو النظام التعليمي في الدول الإسلامية الذي يغلب عليه النظام الغربي في كليات العلوم الاجتماعية؛ فلا يدرس طلابها ولو نبذة عن العلوم الشرعية، في حين يدرس طلاب السياسية الشرعية الفقه والعلوم الشرعية دون أدنى معرفة بالنظرية السياسية الغربية، ولذا يبقى الفريقان في انفصال وانفصام لا يجمعهما حد أدنى من الثقافة أو حتى الاحتكاك الأكاديمي.

وتظل الفئة الوسيطة التي تسعى لتجسير الفجوة، فئة من الذين تخرجوا -في الأغلب- في كليات العلوم الاجتماعية المدنية، وسعوا بجهد شخصي إلى تحصيل العلم الشرعي دون دعم من مؤسساتهم الأم.

وهي فئة تنظر إليها مؤسساتها الأكاديمية نظرة استغراب، بل واستنكار، وتنظر إليها الكليات الشرعية نظرة ريبة وشك، ويبقى جهدها -رغم جديته- خارج التيار العام للمدرستين.

ويبرز التحدي أمام العقل السياسي الإسلامي المعاصر في تناوله للموضوعات المختلفة المطروحة على الساحة الفكرية؛ حيث يصبغ أجندته واهتماماته هذا الاستقطاب، ويظهر ذلك جليًّا عند تناول موضوع التعددية السياسية والحرية.

الإدارة السياسية للاختلاف.. تساؤلات ما قبل المنهج

قبل أن نشرع في التفكير نتساءل: هل نحن نفكر وفق أولوياتنا أم استجابة لأسئلة مطروحة من خارج سياقاتنا، فرضتها علينا العولمة ومنظوماتها الفكرية؟

لا أجادل هنا في أن التنوع والتعدد من المقومات الأساسية في أي مجتمع إنساني، ولكن المراجعة تنصبّ على فكرة الدلالة أولاً؛ أي ما يعنيه السؤال، واتجاهات الإجابة، وخريطتها المطروحة، ومساحات المفهوم الدلالية.

وثانيًا أولوية هذه الخريطة في سياقنا الفكري؛ أي أولوية السؤال في جدول همومنا الحياتية وفق التصورات المعينة للقضية المقترحة، أو المتوهمة، أو المصنوعة/الأسطورة (كالعديد من أساطير الحداثة المستقرة).

وبدايةً فإن إيماننا يتأسس على أن الاختلاف سنة من سنن الله في المجتمعات؛ فهناك اختلاف في اللسان واللون والمذهبية والدين والرأي، ولا يشغل الباحث في العلوم الاجتماعية صوابُ أو خطأُ الخلاف أو مقومات الاختلاف؛ لأن الحكم عليها إنما هو لله، يوم يُرد الناس إلى الله.. بل يشغل باحث السياسة والاجتماع والاقتصاد كيفية إدارة المجتمعات الإنسانية لهذا الاختلاف بدرجاته، ودراسة ومقارنة تصورها العقيدي/الأيديولوجي لطبيعته وحدوده وضوابطه، أما اختيار سبل الإدارة المثلى لمجتمع ما فشأن كل أفراده وفق مستويات الشورى والاستشارة المؤسسية والعرفية، الهيكلية والاجتماعية اليومية الحياتية.

التعدد ليس "التعددية"

وتجدر في هذا السياق التفرقة بين التعدد والاختلاف كمفاهيم، وبين "التعددية" كمصطلح سياسي في علم السياسة الغربي الليبرالي السائد تحديدًا؛ فالتعدد –كمفهوم- يرادف التنوع والتفاوت والاختلاف، في حين أن "التعددية" كمصطلح هي نظامٌ سياسيٌّ له خلفية تاريخية وفلسفية ترتبط بإدراك دور الدولة وطبيعة المواطنة، بل وطبيعة الإنسان، وصيغ العقد الاجتماعي وقضاياه ونظامه الاقتصادي.

كما أن لذاك النظام ملامح مؤسسية ثابتة متفقًا عليها، ويقترن بتطور اقتصادي واجتماعي محدد، ومناخ ثقافي يقوم على الفصل بين الدين والدولة، ويهدف إلى إدارة الصراع الاجتماعي الممتد دون مرجعية فكرية واحدة تجمع الأفراد والجماعات، سوى مبدأ قبول التعدد ذاته وإجراءات إدارته، مع تنامي الهويات الناشئة والمصطنعة، وليست المكتسبة في مواجهة مرجعيات سائدة أو تاريخية.

ورغم أن "التعددية" كمصطلح تعبر عن صيغة واحدة فقط هي شكل الممارسة الليبرالية الديمقراطية الحزبية في بعض أوروبا والولايات المتحدة وكندا، ورغم أن التعددية الحزبية تحديدًا هي أحد أنماط التعددية السياسية عامة وليست النمط الأوحد.. فإن كثيرًا من الجدل الدائر على الساحة الأكاديمية والفكرية الإسلامية بشأن النظام الإسلامي يدور حول الحزبية، ومدى موافقتها للمبادئ الإسلامية أو تفضيل فكرة أهل الحل والعقد، دون بلورتها وتجديدها، ويصطبغ هذا الجدل بالانقسام السالف الإشارة إليه.

ففي ناحية يقف فريقٌ يؤيد الحزبية، وآلية الانتخابات التمثيلية، ويراها ضمانًا لتداول السلطة وعدم الاستبداد، ووسيلة لإدارة الاختلافات السياسية، وصيانة للحقوق والحريات العامة.. وإحدى الأدوات التي نجحت في الغرب في ضمان المساواة والحرية والتعبير عن الرأي، والرقابة على السلطة الحاكمة.

وفي ناحية أخرى يقف فريقٌ يرى الحزبية مدخلاً للفُرقة، وتحكيمًا للقوى السياسية في مقابل تحكيم الشريعة، وسببًا لعدم الاستقرار السياسي في الدولة الإسلامية، ونظامًا غربيًّا يرتبط بالتجربة التاريخية الغربية، في حين أنه لا يصلح في النظام السياسي الإسلامي.

وليست مهمة هذا المدخل الخوض في الجدل، ومناقشة أطروحات كل فريق.. لكننا نلاحظ -مجملاً- على منحى الجدل ما يلي:

1- أن كلا الفريقين -رغم الخلاف- قد ارتضى الحزبية أرضيةً للجدل، ولم يحاول أحد الطرفين نقل الجدل والاختلاف إلى مساحة جديدة، ووحدات اجتماعية وأشكال إدارية أخرى للتعامل مع التعدد والاختلاف السياسي والاجتماعي؛ فكأن الطرفين قد ارتضيا السؤال رغم اختلاف الإجابة، ولم يحاولا طرح أسئلة جديدة.. فتمسك الأول بشكل واحد من أشكال التعددية أو الممارسة الديمقراطية في الغرب، ورفض الثاني نقل أي تجارب في الإدارة السياسية من الغرب، متجاهلاً أشكالاً للمشاركة السياسية بلورها الغرب.

 ويفيد الباحث الإسلامي الاطلاع عليها لاستكشاف البُعد الإنساني الاجتماعي المشترك العام فيها، كالنظام التعاضدي -على سبيل المثال- الذي يقوم على وجود جماعات مصالح متعددة الحجم، ومتفاوتة الترتيب من حيث القوة في المجتمع، تتداخل مع الدولة.. حيث تعد الأخيرة عنصرًا فاعلاً، وليست مجرد ساحة صراع أو طرف فيه.

 ويلعب القانون دورًا محوريًّا في هذا النظام الذي يتميز عن التعددية من جهة، والاستبداد من جهة أخرى. لكن بقي في بعض الأدبيات السياسية قرين الفاشية؛ لأنه طُبق فيها ولم يلق في العالم العربي اهتمامًا يُذكر، رغم تزايد الاهتمام النظري به في الغرب، ونجاحه في مجتمعات تنتمي إلى مجتمعات المذهب الليبرالي، مثل النمسا.

2- أن الفريق الأول لم يتابع تطور الحزبية في بلدانها ذاتها، بل اكتفى بالأطروحات العامة التقليدية عن دور الحزب نظريًّا، ومميزات النظم الحزبية، غير مدرك للانتقادات التي يتعرض لها نظام التعددية الحزبية نظريًّا، بل فكرة النيابية والتمثيل السياسي برمته، والمشكلات التي يواجهها عمليًّا بعد خبرة تاريخية ليست بالقليلة، أبرزها العزوف السياسي للمواطنين، وتدني نسب المشاركة في الانتخابات في العديد من الدول الأوروبية، بل والولايات المتحدة.   أما الفريق الثاني فقد اكتفى بتقديم فكرة أهل الحل والعقد، كآلية الشورى، وصنع القرار في الدولة الإسلامية دون تفصيل اجتهاد معاصر لمؤسسات الشورى التي يمكن بناؤها في الدولة الإسلامية، باستثناء كتابات قليلة، أبرزها كتاب الدكتور "توفيق الشاوي" القيّم عن الشورى والاستشارة.

وتراوح موقف العلماء المتخصصين في السياسة الشرعية بين الرفض الصريح للحزبية أو إسقاطها كلية من التناول تجاهلاً -أو حتى جهلاً- بحجج قوية يمكن تقديمها لو علم أهل هذا الفريق جوانب قصور التعددية.

3- أن الفريقين ربطَا التعددية السياسية بالسلطة وليس بالمجتمع؛ وهو ما يعني -ولو بشكل كامن- تبنّي إدراك السياسة باعتبارها "علم السلطة" أو طريقة إدارة السلطة في المجتمع وتأسيسها على القوة.. وهي نظرة تختلف عن النظرة الإسلامية التي تؤسس السياسية على المصلحة، وتربطها بالأمة وليس بالحكومة أو نظام الحكم؛ فالتعددية السياسية أوسع نطاقًا من تعدد الرأي على مستوى النخبة السياسية، أو تعدد المنحى السياسي لتعدد إدراك المصلحة القومية.. ففي الرؤية الإسلامية يرتبط المفهوم (وليس المصطلح) بطبيعة المجتمع الإسلامي العضوية، وأشكال وأنماط ودرجات الاختلاف وأشكال إدارتها.

الأمر في الرؤية الإسلامية إذن مرتبط بالجماعة والإدارة السياسية المثلى، وليس بالدولة كجهاز، أو النخبة كجماعة تحترف السياسة أو القواعد المتفق عليها لإدارة الصراع.. و يتضح ذلك جليًّا إذا ما انتقلنا إلى بحث الشورى وفلسفتها وأشكالها في المجتمع الإسلامي.

إدارة الشورى ورابطة المجتمع الإسلامي

تُعد الشورى في الرؤية الإسلامية مبدأ إنسانيًّا واجتماعيًّا وأخلاقيًّا، بجانب كونها قاعدة لنظام الحكم، وهي في مجال السياسة: حق الجماعة في الاختيار، وتحمل مسئولية قراراتها في شئونها العامة.

والشورى من مستلزمات الفطرة، ومن سنن استقرار المجتمع، وهي ليست هدفًا في حد ذاتها، بل شُرعت في الإسلام كوسيلة لتحقيق العدل وتنفيذ مقاصد الشريعة.. لذا فهي فرع من فروع الشريعة، وتابعة لها، وخاضعة لمبادئها وحدودها (بالتعريف العام)؛ وهو ما يميزها عن الديمقراطية التي لا تحكمها مرجعية عليا خارجية متجاوزة.

وإذا كانت أحكام الإمامة أو ما يسمى "فقه الخلافة" هي الموضوع الرئيسي الذي تناولته الكتابات السياسية الإسلامية لقرون طويلة، فإن فقه خلافة الحكام أو نظام الحكومة يجب أن يدرس باعتباره فرعًا من فقه الشورى؛ فالشورى هي الأصل، إذ إنها خلافة الأمة.. أما خلافة الخلفاء وولاية الحكام فهي فرع.

لذا فإن فقه الخلافة في عصرنا يجب أن يعود إلى الشورى -أي إلى سلطان الأمة-، ويتأسس على البيعة الحرة أو الولاية التعاقدية التي تتيح للأمة الرقابة على الحكام ومحاسبتهم؛ فالأمة أسمى من الدولة، والإسلام في جوهره "دين وأمة" وليس "دينا ودولة".

ويلاحظ على هذه الآراء المختلفة أنها انصبت على جانب الحاكم، ولم تتعرض لجانب المحكومين؛ فالشورى وردت في إطار الحديث عن الجماعة في آيتين في القرآن الكريم، تلزم الأولى الحاكم بالمشاورة، وتلزم الثانية الجماعة بالشورى. وإذا كانت الشورى فطرة فإنها أيضًا فريضة، ليس على الحاكم وحده بل على الأمة كذلك، فهي التزام شرعيٌّ يدخل في باب الحاكمية، ويعلو على القانون؛ إذ منه يستمد شرعيته وحجيته بسلطان الأمة المستخلفة وتفويضها له..

ولا يحق للأمة التنازل عن واجبها في إقامة الشورى؛ وهو ما يجعلها مسئولة عن حماية ممارستها، ويطعن في شرعية نظام الحكم الذي يتجاوزها، ويلزم الأمة برده إلى الالتزام بها؛ فقد خرج هو عنها، وما وقفة الأمة في وجهه بخروج.

كذلك فإن هذه الآراء لم تميز في استدلالها بين الشورى والاستشارة؛ حيث تتميز الأولى بأنها ملزمة وواجبة، في حين أن الاستشارة هي طلب النصيحة، وهي مشورة غير ملزمة.

شورى وتعددية.. مَن؟ ومتى؟

ويستلزم التمييز بين مستويات وجوب الشورى والاستشارة (كفرض عين أو فرض كفاية) على أفراد الأمة التمييز بين مسائلهما المختلفة، التي يمكن تقسيمها إلى:

- مسائل تشريعية ذات صبغة فقهية خالصة: وهي أمانة وواجب علماء الشرع، وإذا كان البعض قد ذهب إلى أنه في حالة اختلافهم فإنه يؤخذ بالرأي الأقوى دليلاً؛ فإن هذا أمر يخضع للتقدير، وهو ما دعا بعض الكتابات الحديثة إلى المطالبة بتطبيق الشورى في الاجتهاد، وإلى الأخذ برأي الأغلبية؛ حيث إن "الاجتهاد الجماعي" في عصرنا لازم؛ لتعقد وتشابك جوانب الحياة ومسائلها.

- مسائل فنية خالصة يؤخذ فيها برأي الفنيين المتخصصين: والمشورة فيها فرض كفاية على الأمة، وواجبة على المتخصصين في كل مسألة. وتعتمد الشورى فيها في الرؤية الإسلامية على آلية "النقابة" التي تلجأ إليها الدولة في هذا الصدد؛ لأنها تضم أهل التخصص والكفاءة. وقد يكون اجتهادهم فرديًّا، كما قد يكون جماعيًّا في الأمور التي تستلزم ذلك.

- مسائل تتعلق بتنظيم أوضاع الفئات الاجتماعية المختلفة: وأداء الشورى فيها واجب عيني على المنتمين لهذه الفئات؛ إذ يلزم –كما هو الحال في المسائل العامة- معرفة رأي أهلها جميعًا، حيث يمس الأمر كل أفرادها.

- مصالح خاصة لفئات اجتماعية لا تندرج تحت تصنيف النقابات بأنواعها: كالنساء على سبيل المثال، أو الشيوخ (المسنين)، ويتم تمثيلها من خلال مؤسسات خاصة أو اتحادات، أو من خلال استفتاءات محدودة.. وهنا فالمجتمع المدني يلعب دورًا بارزًا.

النقابية والمجتمع العضوي وتجميع الآراء

ويلاحظ في هذا السياق للشورى أهمية النقابة كوحدة سياسية في النظام الإسلامي، وإذا كانت قد اقترنت في الاستخدام القرآني أو في استخدام علماء السياسية الشرعية بالنَسَب (النقابة على الأنساب)؛ فإن ذلك مرده إلى تأسس الجماعة في هذا الطور التاريخي على القبيلة، واعتبارها الوحدة السياسية المحورية.

أمَا وقد تطورت المجتمعات الإسلامية في بلدان إسلامية عديدة، وأصبح أساس التمايز الاجتماعي هو العمل الاقتصادي بالمفهوم الإسلامي والتخصص العلمي أو المهني، فإن النقابة لا تصبح قرينة النسب لقبيلة؛ بل ترتبط بالجماعات المهنية المختلفة لتصبح إحدى قنوات الشورى في المسائل المذكورة.

وفي هذا الصدد يلاحظ قيام النقابة بالمعنى الذي أوضحناه بدورين: دور الضبط الاجتماعي باعتبارها إطارًا مؤسسيًّا يحكم حركة العاملين في مجال ما، ودور المشاركة في العملية الشورية فيما يخص مصلحة الجماعة في أمور فنية أو مصلحة أهل "النقابة" في أمورها المهنية والاجتماعية؛ وهو ما يرشح النقابة في نظرنا لأن تكون وحدة أساسية في بنيان النظام السياسي الإسلامي.

ومما يلفت نظر الباحث أن "النقابة" كوحدة سياسية لم تستوقف الدارسين في النظرية السياسية الإسلامية كثيرًا، ويعود ذلك لأمرين:

الأول- أن النقابات في المجتمع الغربي تلعب دورًا محددًا لتمثيل المصالح، وتصنف في درجة أدنى من الأحزاب السياسية في مجال التحليل السياسي، ناهيك عن خضوعها السلبي للدولة؛ وهو ما صرف عنها أنظار الباحثين.

والثاني- أنه في التراث الفكري الإسلامي اعتبرت النقابة أداة للضبط الاجتماعي فحسب، وصنفت تحت مبدأ الحسبة عند الحديث عن "الأصناف" أي أصحاب المهن والحرف. وتم تناولها في كتب الحسبة، وليس في كتب السياسية الشرعية؛ لذا تم تجاهلها في الجدل الدائر، والتصور الشائع عن مقومات النظام السياسي الإسلامي، في حين تم التركيز على مؤسسات كالخلافة والوزارة والقضاء والإفتاء.. بل والشرطة!

وإذا كانت بعض الحركات الإسلامية على مستوى الواقع السياسي قد نشطت في المجال النقابي، فإن ذلك قد نشأ لعدم تمكنها من الحصول على الشرعية الحزبية، وليس إدراكًا واعيًا بالوظيفة السياسية الشورية للنقابات في الرؤية الإسلامية -للأسف-، وهو ما يعكسه استمرار الجدل بشأن الحزبية، بل واتهام خصومها لها بتحويل النقابات إلى أحزاب فعلية؛ وهو ما يوضح حجم التشويش في هذه النقطة نظريًّا.

وتجدر في هذا السياق الإشارة إلى عدة أمور:

* أن فكرة النقابة تتجانس مع فكرة الانتشار المؤسسي التي يتسم بها النظام السياسي الشوري في الإسلام، الذي يتأسس على مشاركة الأمة في صنع القرار أيًّا كانت طبيعته، وهو ما يقابل فكرة التركز المؤسسي في الرؤية الغربية لارتباطها بالدولة والسلطة والقوة.. فالمؤسسية في الإسلام تختلف عن المؤسسية في الغرب فلسفة وشكلاً، وهي نقطة يجب الالتفات إليها عند القيام بالاجتهاد في إنشاء مؤسسات إسلامية أو إحياء مؤسسات تقليدية إسلامية اندثرت، أو دعم أخرى في طريقها للضعف.. والتيَبٌّس.

*  أن النقابة -بقيامها على العمل كقيمة، وليس على تجمع مصالح أصحاب رؤوس أموال، أو مكانة اجتماعية وسياسية- تتميز عن الحزب بأمرين:

- ارتباطهما بالفئات الاجتماعية المختلفة وليس بالنخبة، واقترانها بصنع السياسة العامة في معناها الواسع، ونفي التنفسية والدعائية؛ حيث إن الهدف هو إدارة العلاقة -وليس الصراع- بين قوى المجتمع وفئاته بأقصى درجة من العدل والتوازن.

- ولأن العمل هو أساس النقابة؛ فإن تلك المؤسسة مرشحة لتذويب بعض مشكلات الأقليات الدينية والعرقية؛ حيث يُعد معيار المشاركة بل والعضوية هي فاعلية الفرد، وصفته المهنية، وليس عقيدته أو عرقه، وذلك بشكل قاعدي يرتبط بالحياة اليومية للأفراد وهمومهم الحقيقية في المعاش وظروف العمل والرعاية الاجتماعية.

*  أنه وإن تأسست النقابية على المهن في المجتمع الحديث، فإن هذا لا ينفي نقابة "الأنساب" في المجتمعات القبلية القوية؛ وهو ما يعني تجاور أشكال متفاوتة من النقابات بالمفهوم العام، هدفها في النهاية هو الإدارة الاجتماعية والسياسية، وهو ما يؤكد فكرتي انتشار المؤسسات وشعبية المشاركة، ويطرح أيضًا فكرة تركيبية النموذج السياسي الإسلامي، واستيعابه لكافة أشكال وأنماط الجماعات في الأمة بما يحقق الشورى ومصلحة الجماعة ككل، وذلك في مقابل الاختزال والتنميط والتحديث على خط صاعد كما في نظريات التنمية الغربية، وربط التعدد بمسائل عامة ترتبط بحياة الأمة بأَسرها وشؤونها جمعاء، ويحتاج فيها لرأي الكافة، وأداء الشورى فيها فرض عين، ويتم التعرف على الرأي بواسطة الاستفتاء العام، وهو ما يمكن تسميته "اجتهاد الجماعة".

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الاستفتاء لتحديد "رأي الأغلبية" أداة صالحة، ولكنه ليس ضمانة في حد ذاته لتحقيق الشورى؛ إذ قد يستخدمه النظام السياسي في الحصول على تأييد الشعب لأمر مخالف للشريعة، وهذه الديمقراطية -وليست الشورى-.. كما قد يُستخدم لإضفاء شرعية كاذبة على نظم استبدادية؛ لذا يبقى المناخ الشوري الأوسع، ورقابة الجماهير، ومشاركتهم، وتحكيم الشرع لوازم الاستفتاء الحقيقي.

ويلاحظ هنا أهمية -بل نكاد نقول حتمية- ربط الاستفتاء بمؤسسة المسجد "مع ملاحظة عدم استبعاد ذلك؛ لمشاركة الأقليات الدينية و إمكان تنظيم أدائها برأيها داخله"؛ لاعتبارات ارتباط السياسة في المفهوم الإسلامي بالعقيدة وبالشعائر اليومية، بل ولاعتبارات إدارية كذلك، وهو ما يجب الالتفات لأهميته وعدم السعي إلى "تحديث" الشورى ووسائلها بمؤسسات وإداريات لا تتفق في فلسفتها مع الرؤية الإسلامية التي هي أقرب للديمقراطية المباشرة القاعدية المتسلسلة منها للتمثيل النيابي والاحتراف السياسي.

إن الأمة هي في مجموعها "أهل الشورى"، وتتفاوت درجة وجوب الشورى (عينية/كفائية) باختلاف المسألة محل الشورى من ناحية، وأهلية وموقع كل فرد من ناحية أخرى.. ويمكن تصور إدارة النظام السياسي الإسلامي من خلال الشورى في هذه المستويات المختلفة، ولا يلزم بالضرورة أن تكون الشورى من خلال "مجلس الشورى" كما ذهب البعض؛ إذ إنها مسألة تخضع لتقدير المصلحة، وطريقة الإدارة السياسية للمجتمع، وحجم ودرجة تطوره الاقتصادي والعلمي، ومسائل أخرى عديدة تجعل الأطروحات الإسلامية في حاجة إلى بلورة ملامح التصور العام، ومراعاة اختلاف الواقع في البلدان المختلفة، بل ووجود تركيب مجتمعي و"اختلاف" واسع في بلدان عديدة.

حرية التعبير والتعدد.. مسارات ما بعد الحداثة

الجدل السالف كله جدل في الإدارة السياسية بالمعنى الواسع، لكنه لا يشتبك مع المضامين الجديدة للمفهوم في مرحلة ما بعد الحداثة، الذي يحتاج إلى بحث مستقل.. فحرية الرأي والتعبير لا تنفصل عن تصورات العقد الاجتماعي، والاجتماعي يتداخل مع السياسي في التصور الإسلامي تداخلاً واضحًا؛ حيث يتشابكان في النظرية والممارسة الإسلامية، فقد أقام الإسلام علاقةً وثيقةً بين قواعد تشريعه السياسي وفطرة التكوين الإنساني والاجتماعي..

وضَمِن من خلال التشريع تأهيل الوحدات المختلفة للقيام بوظائف سياسية إلى جانب وظيفتها الاجتماعية والإنسانية.. وكأن تأسسها على الفطرة و"السنن" الاجتماعية ضمانة لاستمرار وجودها في المجتمع من ناحية، كما أن الأحكام الشرعية الفقهية والأخلاقية التي تضبطها بنيتها وقيمها قد أهّلتها لتحمل هذه المسئولية من ناحية أخرى.

لذا فإن فلسفة الوحدات المختلفة ترتبط بطبيعتها السياسية، ولا تتحقق في كمالها إلا بتأكيدها.

وإذا كان البعض يرى أن النظام الإسلامي له خصائص مميزة تكمن في مجموع مكوناته، فإننا نذهب إلى أن هذه الخصائص تكمن بكاملها في كل بناء من أبنية المجتمع الإسلامي، وتشبه البصمة الوراثية التي تحمل خواص كامل الجسد وخريطته الكامنة.

كذا فإن جدل الحرية والتعددية غير منفكٍّ عن جدل الطبيعة الإنسانية، وغير منفصل عن إشكالات ما بعد الحداثة التي تربط حرية الرأي والتعبير والتعددية تحديدًا بالجسد وسياساته، وهي قضايا تتجاوز خطاب الإسلاميين مسافات، ولم يشتبكوا معها بعد، وتقع في الحقيقة في صلب التعددية بالتعريف الجندري النسوي والتعددية في "أنماط الحياة"، وهي الكلمة المشفرة للسيولة الجنسية الكاملة، وكلاهما من أهم قضايا الأجندة التعددية الغربية.

فإن أردنا جدلاً معاصرًا فإنه لا بد أن يكون حاضرًا هنا أيضًا في تلك المساحات.. لكننا أسرى القفص الحديدي للحداثة، غير قادرين على التحليق.. وجدير بنا -بدلاً من مناقشة حق الردة، وحق العمل السياسي للمرأة، على أهميتها- أن ننتقل من المساعي المستميتة لإثبات ليبرالية الإسلام إلى إسلام ديمقراطي راديكالي ضد العولمة، هو حتى الآن ما زال غائبًا عن قضايا المستضعفين والاستعباد الجديد، وإخضاع الإنسان لسلطان الهندسة الوراثية وسوق الرقيق الأبيض العالمي، واجتياح الثقافات تحت اسم السياحة، وعمالة الأطفال، والهوة بين الطبقات، وقضايا أخرى حقيقية غابت عن أولوياتنا أو بالأحرى: غُيبت.

إن حرية الرأي والتعبير تستلزم التراجع الإنساني القوي من رؤى الحداثة لجذور التنوير"تلك الجذور التي كانت مؤمنة بالله، لكنها تسعى للتحرر من استبداد السلطات الدينية بتكريس العقلانية"، ثم التقدم إلى قلب عصر الواقع وثورة التقنية وعوالم المتخيل وشروطه الجديدة، والرفض القاطع للأسئلة المعلبة التي تصلنا بتسليم المفتاح، جاهزة المكونات وطريقة التشغيل.

وبدلاً من أن نناقش تحديات العصر الإلكتروني، وأزمة الثورة الجينية، وانعكاساتها الأخلاقية كقضايا سياسية؛ نتحدث عن تعددية كأنها خارج الوجود والزمن، وندخل جدلاً نحن فيه في موقف المتهم المدافع عن نفسه من بين قضبان قفص، لا يخطر بباله أن يجاهد للخروج من محبسه، واستهداف خصومه ببسالة وشرف في معركة مصيره ومستقبله.

 

من الأنترنيت

 


 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أنجاز الاستاذ حسن : أستاذ مادة الفيزياء

" وبمساهمة اساتذة الثانوية"

ننتظر مساهمات التلاميذ و الاساتذة  لاغناء هذا الموقع


hassan1tata@yahoo.fr

 

<الموقع إعداد تاريخ ( 20 / 11 /2006)>